السهروردي المقتول .. عصفور غرد فقتلته الكلمة !!

السهروردي المقتول .. عصفور غرد فقتلته الكلمة  !!

السهروردي المقتول .. عصفور غرد فقتلته الكلمة !!

هي خَمرةُ الحبِّ القديمِ ومنتَهَى.. غرَضِ النديمِ، فنِعْمَ تلكَ الرَّاحُ

هو شهاب الدين السهروردي والملقب بالمقتول، وشهيد الرأي، الذي دافع عن أفكاره ولم يتنصل منها رغم التهديد بالحبس والقتل.

ولد وعاش حياته في سهرورد شمال إيران، وانتقل لبغداد ثم حلب حيث كان مقتله عن عمر 38 عام، بأمر صلاح الدين الأيوبي، الذي اعتقد انه يفتن ولده بأرائه وأفكاره، بعدما نسبوا له انحلال العقيدة، وأفتى العلماء، بإباحة دمه.

قل لأصحابٍ رأوني ميّـتاً.. فبكـوني إذ رأوني حـزَنا

لا تظنـّوني بأني ميّـتٌ.. ليسَ ذا الميّـِتُ والله أنا

أنا عصفورٌ وهذا قفصي.. طرتُ منهُ فـتخلّى رَهنًا

التقى بشيخه مجد الدين الجيلي الذي تلقى عنه أصول الحكمة والفقه، وجرت بينه وبين فخر الدين الرازي صاحب التفسير الكبير مناظرات ومساجلات.

عاش في حلب قبيل مقتله وتعرف على علمائها، وجادلهم وناظرهم انتصر عليهم بحجته، وبدء يتحدث عما يجيش في صدره من فلسفة الاستشراق، وأشهر كتبه على الأطلاق، حكمة الإشراق.

سبب مقتله عندما سئله الفقهاء إن كان الله سيبعث نبيا بعد محمد أم لا؟، فأجاب السهروردي: الله لا حدّ لقدرته.

اختلفت روايات الباحثين في قضية إعدام السهروردي والطريقة التي تمت بها، فقيل أنه قبل إعدامه خُيِّرَ في كيفية قتله، فأختار أن يموت جوعا فمنع عنه الطعام حتى لفظ أنفاسه، وذكرت بعض الروايات الأخرى أنه  قتل بضربة سيف، وذهبت بعض الروايات إلى أنه تم حرقه، وفي رواية أخرى قيل أنه خنق بوتر، ولكن لا توجد رواية صحيحة يمكن الاعتماد عليها تثبت كيفية  قتله.

يا نَسيمَ القُربِ ما أَطيَبكا.. ذاقَ طَعم الأُنس من حلّ بِكا

أَيّ عَيشٍ لأُناسٍ قربوا .. قَد سقوا بِالقُدسِ مِن مَشرَبكا

تأسست حكمة السهروري على الإشراق، الذي اعتمد على الكشف وظهور الأنوار على القلب والعقل فتلمع النفوس بالحكمة وتٌربط الذات العارفة بالجواهر النورانية، مؤكداً دائماً أن ثمة نوراً روحياً يتخلل الكون فتشرق النفوس الأمنة بنور اللقاء والقرب.

 وكان يرى دائماً أن الإنسان غايته الوصول إلى حضرة القرب المقدس، معتبراً أن السبيل الوحيد لذلك هي مجاهدة النفس وعصيانها عن طريق الرياضات الروحية.

لكلّ قهوةٍ سُكارى، ولكل بحر مُغرَقون، كم بين حائر في الظلمات زُحْزِحَ عن نور الشمس، وبين حائر أحرقه ضوؤها في قُرْبها الأقرب.

واعتمد في كتاباته على نمطين من الحكمة هما : الحكمة البحثية التي تعتمد على التحليل والتركيب والاستدلال البرهاني، وهي حكمة الفلاسفة.

الحكمة الذوقية: وهي ثمرة مجاهدات روحية، ويحياها الإنسان لكنه لا يستطيع التعبير عنها، وهي حكمة الإشراقيين.

كان دائما يثتغيث من حيّات الهوى التي قصدَته، وعقاربُ الدنيا التي لسعَته، وتماسيح الشهوات التي لدغته، ويشعر في كل الأمور أنه مقصر في حق مولاه، معتبراً أن النفس والهوى ألد أعداءه.

ترك ديواناً واحداً من مائة وخمسة وأربعين بيتًا من الشعر.

عَلى العَقيق اِجتَمَعنا   نَحنُ وَسودُ العيونِ

أَظنّ مَجنونَ لَيلى      ما جنّ بَعضَ جُنوني

إِن مُتّ وَجداً عَلَيهم    بِأَدمُعي غَسَلوني

نوحوا عَلَيَّ وَقُولوا    هَذا قَتيل العُيونِ

أَيا عُيوني عيوني      وَيا جُفوني جَفوني

فَيا فُؤادي تَصبّر       عَلى الَّذي فارَقوني

إليْكَ إشاراتي، وأنتَ الذي أهْوَى.. وأنتَ حَدِيثي بين أهل الهوَى يُرْوَى

وأنتَ مرادُ العاشقين بأسْرهِمْ.. فطُوبَى لقَلْبٍ ذابَ فيكَ من البَلْوَى

مُحِبُّوك تاهُوا في الهوى وتوَلَّهوا.. وكلُّ امرئٍ يصبو لنحو الذي يهَوَى

ولَـمَّا وردنا ماءَ مَدْيَنَ نستقي.. على ظمَإٍ مِنَّا إلى منهل النجوَى

نَـزَلْنا على حَيٍّ كِرَامٍ، بيوتُهمْ.. مقدَّسةٌ لا هندُ فيها ولا عُلوَى

سقانا وحَيَّانا فأحيا نفوسَنا.. وأسْكرَنا من خير إجلاله عَفْوَا

مزَجْنا بها التقوَى لتقوى قلوبُنا.. فيا مَنْ رأى خمرًا يُمازجُها التقوى

أبداً تَحنُّ إِلَيكُمُ الأَرواحُ وَوِصالُكُم رَيحانُها وَالراحُ
وَقُلوبُ أَهلِ وِدادكم تَشتاقُكُم وَإِلى لَذيذ لقائكم تَرتاحُ
وَا رَحمةً للعاشِقينَ تَكلّفوا ستر المَحبّةِ وَالهَوى فَضّاحُ
بِالسرِّ إِن باحوا تُباحُ دِماؤُهم وَكَذا دِماءُ العاشِقينَ تُباحُ
وَإِذا هُم كَتَموا تَحَدّث عَنهُم عِندَ الوشاةِ المَدمعُ السَفّاحُ

لا شكَّ في أنه عندَ كل حديث يدور عن أبرز أعلام الصوفية يتتبادر إلى أذهاننا أسماء مُهمّة، كمولانا جلال الدين الرومي، وصديقه شمس الدين التبريزي، وسلطان العاشقين ابن الفارض، والحلاج أبو المغيث الحسين وغيرهم.
فتجعلنا تلك الأسماء الكبيرة نغفل عن ذكر شعراء آخرين قدّموا- رغم شهرتهم القليلة- أشعاراً مُذهلة، وكانوا فقهاء عصرهم سواء في الدين والفلسفة أو في المنطق والحكمة، مثل قائل الأبيات السابقة السهروردي المقتول.

السهروردي المقتول.. نشأته ورحلة شبابه

السهروردي المقتول، واسمه الحقيقي هو أبو الفتوح يحيى بن حبش أميرك السهروردي، نسبة إلى بلدته التي وُلد فيها، وهي بلدة سهرورد الجبلية، ذات الأغلبية الكردية في شمال غربي إيران، والتي تعتبر تركيبتها السكانية سبباً وراء اعتباره من قبل بعض العلماء كردياً، في حين تشير روايات أخرى إلى أن اسمه هو أحمد أو عمر.
واشتُهر باسم “السهروردي المقتول” تمييزاً له عن صوفيَّين آخرين هما: شهاب الدين عمر السهروردي مؤلف كتاب “عوارف المعارف” في التصوف، وصاحب الطريقة السهروردية، وتمييزاً عن أبو النجيب السهروردي صاحب كتاب “غريب المصابيح”.
وُلد الشاعر الصوفي السهروردي المقتول في العام 1155، لكن عندما بلغ العاشرة من عمره أرسله والده نحو “مراغة”، وهي مدينة قريبة من بلدته من أجل طلب العلم، ليدرس على يد الشيخ مجد الدين الجيلي الذي خرج من بين يديه العديد من العلماء، لعل أبرزهم هو العالم فخر الدين الرازي.
درس السهروردي على يد شيخه كل ما يتعلق بالدين والفلسفة، فحفظ القرآن الكريم وتفسيراته، كما تفوّق في الفقه والأصول والمنطق والفلسفة وقواعد النحو والصرف، حتى إنه كان أحد أصدقاء فخر الدين الرازي الذي كان يكبره ببضع سنوات فقط

التقى بتلامذة ابن سينا بأصفهان وتغلب على فقهاء في حلب

وعندما اشتدّ عوده، قرر السهروردي الانتقال من مدينة مراغة الصغيرة باتجاه مدينة أصفهان، التي كانت حينها مركزاً رئيسياً للدين والعلوم، ليدرس على يد شيخ يدعى ظهير الدين القاري.
ووفقاً لما ذكره موقع العرب، فقد تعرف في أصفهان على تلامذة العالم ابن سينا الذي كان يحظى باهتمام بالغ من العلماء في ذلك الوقت، إضافة إلى قراءته لكتبه.
وكان لفترة مكوثه في أصفهان تأثير كبير عليه فبدأ بكتابة أولى مطولاته “بستان القلوب”، كما ترجم “رسالة الطير” لابن سينا من العربية إلى الفارسية؛ من شدة إعجابه بها.
بعد ذلك اتجه السهروردي باتجاه مدينة حلب التي كانت خلال العصر العباسي مركزاً حضارياً نشطت فيه ترجمة كتب الفلسفة والتاريخ، فأقام فيها لكنه اصطدم بفقهائها الذين أثار غيظهم نتيجة تفوقه عليهم في المناظرات.
ووفق ما ذكرته موسوعة نداء الإيمان، فقد كان السهروردي يلقب بـ”المؤيد الملكوت”، ويتهم بأنه يخل بالعقيدة ويعطلها؛ وهو ما دفع علماء حلب لإباحة دمه وطلب قتله بسبب معتقداته.
حتى إنهم قرروا شكواه إلى صلاح الدين الأيوبي، بحجة أنه يفتن بابنه الظاهر الغازي للكفر والخروج عن الدين، فأمر الأيوبي ابنه أن يسجن السهروردي حتى يهلك في سجنه صبراً وجوعاً وعطشاً، لكنّ الظاهر امتنع عن ذلك، فأرسل له والده إليه يخيره بين أمرين: إما قتل السهروردي، وإما العزل، فأذعن والي حلب الملك الظاهر لأمر أبيه، وأودعه السجن داخل قلعة حلب حتى يموت خنقاً وهو في الـ38 من عمره، وكان ذلك في العام 1191.

اختلاف واضح بتصنيفه

ورغم موته لا يزال الناس مختلفين في شأنه، فمنهم من ينسبه إلى زمرة الملحدين، ومنهم من يشهد له بحسن الاعتقاد.
فقال القاضي بهاء الدين، المعروف بلقب ابن شداد، قاضي حلب: إن السهروردي كان كثير التعظيم لشعائر الدين، وأطال الكلام في ذلك، وذكر نفسه في آخر وصاياه قائلاً: “اتق شر من أحسنت إليه من اللئام ولقد أصابني منهم شدائد”.
أما سيف الدين الآمدي فقال: “اجتمعت به في حلب فقال لي: لا بد أن أملك الأرض فقلت له: من أين لك هذا؟ قال: رأيت في المنام كأني شربت ماء البحر، فقلت: لعل هذا يكون اشتهار العلم وما يناسب هذا، فرأيته لا يرجع عما وقع في نفسه، ورأيته كثير العلم قليل العقل”.
وأضاف أنه عندما تحقق أمر الحكم عليه بالقتل كان كثيراً ما يردد البيت التالي:

أرى قدمي أراق دمي وهان دمي فها ندمي

 

ما الذي قدّمه السهروردي خلال حياته؟

يقال إنّ السهروردي كان إماماً في فنونه، جامعاً للعلوم الفلسفية، وبارعاً في الأصول الفقهية، إضافة إلى معرفته الواسعة بـ”علم السيمياء”.
والسيمياء هي مجال دراسة الطقوس والتقاليد التي تمارَس من أجل التواصل مع الماورائيات أو مع وجوديات لا يمكن استيعابها في العالم المادي، وهو ما يعتبره الإسلام نوعاً من أنواع السحر المحرم ومجرد وهْم يسيطر على الناس.
إضافة إلى أنه ترك وراءه كثيراً من المؤلفات والكتب، أبرزها كتاب “حكمة الإشراق“، الذي أضحى مدرسة فلسفية صوفية متكاملة، لا تزال موجودة حتى يومنا هذا في دول مثل إيران والهند وباكستان، وبفضل ذلك الكتاب أيضاً أطلق عليه اسم “شيخ الإشراق”.

ترك السهرودي أكثر من خمسين كتاباً ورسالة باللغتين العربية والفارسية أشهرها كتاب «حكمة الاشراق» ويضم أسس فكره وفلسفته

ويشتمل على قسمين في المنطق وفي الإلهيات. وتتلخص مدرسته الفلسفية التي سميت بالمدرسة الإشراقية بأن الإنسان لا يستطيع أن يصل إلى الحقائق والمعارف بالبحث النظري وحده، بل لابُدّ أن يصاحب البحثَ النظري تأملٌ روحي ليصلَ إلى حقائق العلم وتنفجر في قلبه أنوار المعرفة.

بعبارة أخرى طريق العلم بحاجة إلى حركة في الفكر وحركة في النفس كي يصل بها الإنسان إلى حقائق الأشياء.

هذه بإجمال «فلسفة الإشراق» التي نظّر لها السهروردي ودافع عنها، وأصرّ على خواء كل عمل فكري لا تصحبه حركة تكاملية في النفس، يكون معها الإنسان (عاشقاً).

 

السهروردي هو الحكيم الذي استطاع أن يعانق بروحه قلل الفكر الشامخة في آفاق الحقيقة فوق سحب القول، وهناك يتوافر له الإمكان في ربط الكلام والفكر الإنساني بالكلام والفكر الإلهي

فيربط الحكمة بـ القرآن الكريم بأمتن العرى وأجمل الوشائج، فلا نراه في أثر من آثاره إلا متدرجاً صاعداً حتى يتوج مسيرته الفكرية بالآية القرآنية مستشهداً بها في جلالها وعظمتها.
 في منظومة السهروردي مصالحة بين الإنسان ونفسه، فالانسان عاقل ولكنه عاشق أيضاً.

العشق يدفعه على طريق هدف كبير والعقل ينير له الطريق.

كم من عاقل عاش لذاته ولمصالحه الضيقة وسخّر كل طاقاته العقلية لتكريس أنانيته وتلبية أهوائه وشهواته، دون أن يقدّم أي عطاء للبشرية !!

كم من عاقل سَخَرَ من المضحّين والباذلين أرواحهم وأموالهم في سبيل هدف كبير، لأنه يرى في ذلك تعارضاً مع مصالح الذات ومع العقل!!

للمزيد..

رهبان في محراب العشق| عمر بن الفارض (السلطان)

صفحتنا الرسمية فرندة – Farandh

السهروردي المقتول .. عصفور غرد فقتلته الكلمة !!
السهروردي المقتول .. عصفور غرد فقتلته الكلمة !!
شارك المقالة