حكاية مقام سيدنا الكامل … قصة قصيرة بقلم أحمد المرسي

حكاية مقام سيدنا الكامل …  قصة قصيرة بقلم أحمد المرسي

 

حكاية مقام سيدنا الكامل … قصة قصيرة بقلم أحمد المرسي

في قريتنا المُلقاة على شاطيء النيل، مقام مُنزوي وسط الجبانة التي يدفنون فيها الموتى منذ مئات السنين.

 والمقام الذي يسمونه “مقام سيدي الكامل”، هو مقام من الطوب مطلي بطلاء أخضر على عاداتهم في طلاء ما يعتقدون بقدسيته.

فهم على مر أكثر من ألف سنة كانوا يختارونه لون لعمامات كل من هم من نسل الرسول، ممن يسمونهم بالأشراف، وكانوا يقولون أنه حُرم على غيرهم ارتداء هذا اللون.

ويتناقل أهل قريتي حديث سيدنا الكامل هذا على ألسنتهم، كما يتناقلون أخبارهم الآنية، فإذا أغلظ الرجل منهم الأيمان، فإنه يقول أولا “والله”، فإذا لم يصدقه محدثه، انبرى يقول بنبرة قاطعة “ومقام سيدي الكامل”، فيصمت مُحدثه ويُبهت، ويؤثر الصمت.
وأتذكر في صغري أن الضريح كان يخدمه خادم مجنون، يقولون أنه توارث خِدمة المقام جداً عن جد، وهو رجل كهل بلغ المائة.

ويقولون أنه لم يجن إلا لأن سيدنا الكامل كان يخرج في الليل من قبره ويجالسه، ولم يكن جنونه خوفاً، أو رهبة من رؤية الميت، كما يحدث لمن يرى ميتًا، ولكن لأن حديثه الثقيل مع الوليّ كان أثقل من أن يحتمله بشر.

فيقولون أنه حدثه بما كان وما سوف يكون، وكشف له الأسرار، ولم يحجب عنه الأنوار، فجن الرجل، وقالوا فيما يتناقلون أن ما قاله له الكامل لا يعرف به سوى الأنبياء.

أما عن مصير هذا الخادم، فقد نزل في ساعة فجر إلى بحر النيل ولم يظهر ثانية، أما عن مقام سيدنا الكامل فقد بقي كما هو بقبته المصنوعة من الطوب النيء والمطلية بالأخضر الشريف.
وأما عن حكاية مقام سيدنا الكامل فيحكون أنه رجل صالح كالخِضر عاش وسط الناس منذ أكثر من ألف عام.

بل يقولون أنه عاش ستمائة سنة مثل عمر نوح عندما أمره الله بصنع السفينة، على كل حال فإن هذا الرجل كما زعموا قد حاز الكمال، وهو ما لم يمنح حتى للأنبياء.
فهو أكمل الوجوه خلقة، فكان أجمل من يوسف، حتى أن كل من رآه بكى من جمال خلقته، فلم يكن جماله ليتحمله مخلوق أيضاً، وكان أكمل الأجسام بنياناً، فقالوا أن جسده لم يخلق من طين.

ولكن من نور، فلم يكن به عيب واحد فقط، بل أنه نور وجهه كان يغنيه عن حمل مشعلاً يضيء له في الليل، وقالوا أنه كان أكمل من لقمان الحكيم عقلاً، وأرجح من خضر موسى بصيرة، وقالوا أنه كان يلبس مثل المسيح، ويمشي حافيًا في الأسواقٌ.. فإذا مس الأشياء حلت بركته عليها، وإذا قرأ على الطعام زاد..
وقال الناس أنه لم يكن يُسمى الكامل في صغره، ولكن الناس عندما رأوا منه تلك الصفات، أسموه ذلك الاسم، ولم تكن أمه حين ولدته في قارب للصيد، لتعلم أنه سوف تكون له كل تلك الكرامات.

وتجري على يده هذه المعجزات، فلما تقادم به العمر، ولم يكبر مثلما يكبر الرجال، ولم يمت مثلما يموتون، وضعوا إيمانهم فيه بأنه كامل، لا يهزمه موت، وأن صفات الكمال كلها قد تحققت فيه.
ولم يعرف عن الكامل أنه تزوج امرأة، أو أنه أنجب ولداً، فهو كما كان يراه أهل عصره، أعظم من أن يفعل مثلما يفعل الرجال، وكان أعظم من أن تراه أي امراة زوجاً لها، فقد كان كائناً نورانياً يمشي وسطهن عندما يمشي، وكانوا يمنعن أنفسهن من ارتكاب حرمة السجود له بقوة إيمانهن بالله، لأن الله، ورغم أنه أعطى هذا الرجل منحة الكمال إلا أنه خص لنفسه بالعبودية.
وقد عاش الكامل لا يأوي إلى بيت، أو ينام في خيمة، وذلك لعدم حاجته للراحة، فإنه كما زعموا عاش ستمائة عام لم يغلق فيها عينيه، ولم ينم ساعة واحدة، فكان يستيقظ فيما ينام الناس، وكان جلوسه أغلب حياته بجوار عمود المسجد الوحيد في القرية وقتها.. يستند له، بظهره ويجلس صامتاً لا يحادث أحد، ولهذا العمود قصة طويلة، فقد هدم المسجد بالكامل منذ مائة عام في زلزال هز أركان القرية، فإنهدم المسجد وكل البيوت التي حوله، ولكن هذا العمود لم يسقط بل ظل واقفاً منتصباً وكأنما بأمر السماء، وببركة سيدنا الكامل.
لا يهمنا هنا ما قالوه عن الكامل، بقدر ما يهمنا ما حدث له، وهو ذلك اليوم الذي غير كل شيء، فقد زعموا فيما زعموا أن الكامل كان يسير على شاطيء النيل عندما رأى تلك المرأة تحاول أن تبحث عن قارب ينقلها إلى الضفة الأخرى، حيث القرية المقابلة نائمة على ضفة النيل.
ولما كان الوقت متأخراً، فلم تجد قارب واحد يقلها، يقولون أن الوقت كان غروباً، وأن الطيور كانت عائدة لأعشاشها، وقد رآها الكامل في محنتها تلك، خائفة متوجسة، فوقف بالأعلى وناداها، فإلتفتت له، فوقع في نفسه ما وقع، وشعر لاول مرة عندما نظرت له بتلك العينان السودواتان بشيء ما يهز قلبه، وفهم تلك الوشيجة القوية التي خلقها الله لتربط بين الرجل والمرأة، وعرف ما سموه أهل زمانه بالعشق.
ويقولون أن الكامل ما شعر بهذا إلا لمعصية ارتكبها، فعاقبه الله بهذا المرض، مرض العشق، بأن وقع في عشق تلك المرأة من النظرة الأولى، فنزل إليها، حافياً، وسألها:
– ماذا تريدين؟
ولأن المرأة مثل بقية أهالي القرى الأخرى لم يروا الكامل من قبل، لم تعرفه، وظنته رجل بلا قدر غريب، ولكن جمال وجهه الأخاذ قد شغفها، فما كادت تنظر إلا وقد ارتعش قلبها هي الأخرى، ووجمت، وصارت تحكي له ما تريد بلسان المتلعثم المضطرب، فما كان من الكامل إلا أن امسك بيدها، وسار بها حيث النهر، فسارت معه مستسلمة كالسائمة، لا تلوي على شيء، ويدها في يده.
ثم وضع رجله الحافية في بحر النيل، فترددت لوهلة، ونظرت للأرض أسفلها، ورفعت عينها من جديد لعينيه، فرأت تلك الابتسامة الساحرة على وجهه، فوجمت، وخطت إلى النهر، فلمست قدمها الطمي الطري في البداية، ورأته يسير بها للأمام، ولكن قدمه لم تلمس الأرض بل سارت فوق الموج، وكأنه يسير على الأرض، وعندما شعرت بقلبها يدق خوفاً، حثتها على مواصلة المسير شدة كفه على كفها، فتقدمت فإذا بها تطفو هي الأخرى فوق الماء، وسارت وراءه، وكأنما يسيران على البسيطة، والموج دونهما..
ويحكون أنه عندما وصلت المرأة إلى الشاطيء الآخر من النيل، سقطت على الارض عند قدمي الكامل وقبلتهما، وقد أيقنت أنها أمام مخلوق غير بشري، قادر على أن يقوم بما تقوم به الآلهة!..
ولكنه أنزعج من فعلتها، ولأن قلبه قد دق لها مثلما لم يدق لامرأة من قبل، فقد طلب أن يتزوج منها، ولكن المرأة رفضت الزاوج خافت وانطلقت تركض مبتعدة عنه، وسط الحقول حتى اختفت عن ناظريه.
وقالوا أن الكامل حار في ذلك، وانطفأ نور قلبه، ثم أنهم قالوا أن المرأة تزوجت وقال آخرون أنها قد ماتت بعدما رأت ما رأت، ومن يومها تغير كل شيء.
في البداية لم يعودوا يرونه في الأسواق حيث اعتاد أن يسير وسطهم، ولم يعودوا يرونه في النهر حيث ولد، وقد اعتاد الاستحمام فيه، ولم يعودوا يرونه إلا في المسجد، وما عاد يظهر أمامهم إلا جالسًا بجوار العمود الحجري ينظر إلى السماء من ثقب في سقف المسجد.
ثم أنه لما ذاق ما ذاق من حلاوة تلك اللحظة التي لم ينساها، وتعب من فراق المرأة التي أحبها، ومن البكاء عليها، كره تلك المنحة التي مُنحت له، وكره بقاءه وحيدًا.
وكان أول ما فعله لكي يتخلص من منحة الله تلك أن شوه وجهه، بغبار الجير، حتى لم يبق من وجهه غير عظامها، فتآكل لحمه وجلده، وعندما شاهدوه الناس على تلك الخلقة نفروا منه، وظل على هذا مائة عام كما زعموا، ثم أنهم لما وجدوه كما هو لم يمت، وظل جالساً بجوار عمود المسجد، عادوا إلى إلتماس البركة منه، متناسين أمر وجهه، وكان ينظر لهم ويكره وجودهم حوله، وإلتفاتهم عليه، وكأنما كلما نظر إلى وجوههم الخاشعة تذكر وجه تلك المرأة التي أحبها منذ مائة عام، حتى هداه فكره إلى أن يفقأ عيناه بسيخ من حديد، وعندما فعلها ذهب نور عينيه، وما عاد يستطيع أن يرى أحد، ولكن بعد مائة عام أخرى، كانوا يقودون هذا الشاب الضرير، ويلتمسون منه البركة، فصحيح أن الله أخذ منه الجمال والبصر ولكن الله وضع فيه كل شيء غير ذلك، وكان يسمعهم من حوله يطلبون منه البركة، لأنه رجل لا يموت، وقد منحه الله المنحة التي لو منحت لأي منهم لكان أسعد مخلوق على تلك الأرض.
وكانت مائة عام أخرى كافية ليأمرهم بأن يربطوه بالسلاسل والجنازير في عمود المسجد ولا يعطونه شربة ماء، فتعجبوا، ولكنهم امتثلوا، فهذا القديس هو الأعلم بما يريد الله منه ومنهم، وشدوا يديه إلى الجنزير، حول العمود.
وكان الكامل يقضي لياليه المظلمة لمدة مائة عام أخرى يبكي في الليل، ولا يسمع سوى هوام الليلي وحيوانات الشوارع حتى يطلع الفجر، فتعود زحمة الناس إليه من جديد، حتى أتت تلك الليلة التي فك بإرادة منه سلاسله، وخرج يجرها خلفه من باب المسجد، وسار يتخبط في عماه وسط الليل..
ويزعم الزاعمون من جهال قريتنا أنه في تلك الليلة قابل الرسول، ولم يستطع أن يراه بعينيه، ولكنه عرفه من رائحة المسك:
وقال له الرسول معاتبًا:
– بالله ماذا فعلت بنفسك يا ولدي؟
فابتسم الشاب وقال:
– إن الأجدى أن يهدم كل كامل نفسه ليشعر بها.
فتركه الرسول في طريقه فذهب يتخبط في عماه، ولا يعرفون ما حدث بعد ذلك، سوى أنهم رأوه ميت عند شاطيء النيل، وقد قتل نفسه، ولم يعرفوه إلا من الجنازير التي حول يديه، فصنعوا له ذلك المقام ذو القبة الخضراء، وصاروا يتناقلون سيرته إلى يومنا هذا، أما عمود المسجد فقد بقي كما أسلفنا قائماً حتى يومنا هذا، وتراه بارزا لا يحمل سقفا وسقط الجامع الذي بنوه منذ أقل من مائة عام على أطلال الجامع القديم، ويقول الناس أن آثار الجنازير والسلاسل لازالت غائرة في حجارته.

ودي كانت حكاية مقام سيدنا الكامل 
أحمد المرسي

للمزيد..

أصل المدد في الإسلام | الحسد نظرة تقتل والمدد نظرة تحيي

صفحتنا الرسمية فرندة – Farandh

حكاية مقام سيدنا الكامل ... قصة قصيرة بقلم أحمد المرسي
حكاية مقام سيدنا الكامل … قصة قصيرة بقلم أحمد المرسي
شارك المقالة