رواية عزف على أوتار الحياة للأديبة زيزيت سالم |مكتبة فرندة

رواية عزف على أوتار الحياة للأديبة زيزيت سالم |مكتبة فرندة

 “أن للصبر موسيقى يعزفها الوقت كي يمر سريعا، ولا يسمعها سوى من لديه الإرادة”

رواية عزف على أوتار الحياة للأديبة زيزيت سالم |مكتبة فرندة

قصة اجتماعية مليئة بالمشاعر الإنسانية الجميلة 

كنت لا أزال تلميذة بالمدرسة الثانوية عندما أقام معنا في نفس البيت جدي لأمي، جمعتني به صداقة من نوع خاص، يناديني “نانا” مع أن إسمي “رجاء”.

ناقشته كثيرا عن علاقة نانا بإسمي فكان يجيبني دائما: أنت نور عيني يا رجاء و”نور” اسم الدلع لها “نانا”، ابتسم وأرتمي في حضنه وأبوسه وأهمس له: حبيبي يا جدي.
يستيقظ جدي كل يوم ليصلي الفجر ولا ينام بعدها حيث يسقي الزرع في البلكونة ويشرد ببصره الى السماء حتى شروق الشمس وإن كنت لاحظت أنه لا يكون شاردا في السماء إنما في العمارة المقابلة لنا رغم أنها عمارة عادية لا تتمتع بفن جمالي وليس بها ما يستحق الشرود.

أحببت مدرستى الكائنة بجوار البحر في مدينتي الساحلية، فقد كنت متفوقة في كل نواحي النشاط المدرسي والمدرسين كلهم أصدقائي.

أشارك دوما في الحفلات المدرسية الموسيقية التي تنظمها المدرسة في نهاية كل عام، أعزف على آلة الإكسيريفون التي برعت في العزف عليها.

ونلت العديد من الجوائز والميداليات الفضية، وكان لي عدة أطقم أرتديها في تلك الحفلات، بلوزة من الساتان الأبيض وجيب أسود بليسيه وببيون أحمر.

ولا أنسى بالطبع الروج الأحمر التي كانت مدرسة الموسيقى تزين به شفتاي قبل بداية الحفل.

حتى أنني اعتقدت أنه كان السبب في أنني أعزف بهذا الاستمتاع الذي أستحق عليه الميدالية التي تمنحها لي المدرسة في نهاية الحفل والتي أعطيها لجدي في كل مرة ليحتفظ لي بها في صندوق خشبي مزين بالصدف.

الصندوق الصدفي لم يكن يحتوي على رصيدي من الميداليات فحسب بل هو في الأصل صندوق جدي الذي يحتفظ به بميدالياته الفضية والذهبية عندما كان عازفا بارعا على الكمان وعضوا في فرقة موسيقية بالمدرسة والجامعة.

للمزيد..

نجيب محفوظ ..نبيا رسالته التشاؤم!

أخبرني جدي أن فرقته كانت تفوز دائما في مسابقات المدرسة ثم الجامعة، لكنه لم يمتهن العزف رغم عشقه له.

لذا أعتبرت نفسي محظوظة أن جدي اصطفاني لأحتفظ بميدالياتي بجوار انجازاته البديعة.

مجرد أن يدق جرس آخر حصة أذهب مع صديقاتي الى بائع دود القز الرابض أمام مدرستنا الذي كان ينتظرنا عادة أمام المدرسة لنشتري منه الدود في علبة كرتونية بها بعض أوراق التوت الخضراء التي يتغذى عليها ثم يثقب غطائها بعدد من الثقوب لتتمكن من التنفس.

كانت متعتي أنا وجدي أن نراقب دودة القز وهي تأكل أوراقها ونتحلى معها بالصبر، يقول لي جدي:

أن للصبر موسيقى يعزفها الوقت كي يمر سريعا، ولا يسمعها سوى من لديه الإرادة، لذا كنا نراقب الدودة ونصبر حتي تحول نفسها الى شرنقة بيضاء غاية في الجمال.

تماما كما يفعل الساحر الذي يخرج لنا الأرنب من قطعة القماش الحريرية، فتخرج من الشرنقة فراشة جميلة بعد فترة من الوقت لا أتذكر مدتها على وجه التحديد.

كنت أحتفظ بالشرنقة ذات الخيوط الحريرية في علبة خاصة بي وأتباهى مع صديقاتي بأي منا لديها شرانق أكثر من الأخرى، وأحيانا أصنع لي ولجدي خاتما من خيوطها الحريرية.

عندما يأتي المساء يصل لأسماعنا صوت عزف بيانو قادم من العمارة المواجهة لنا يصاحبه صوت نسائي يشبه الصراخ، فينصت جدي باهتمام وشغف، أقول له إنها تصرخ يا جدي.

فيقول لي: إنها تغني يا نانا، اقتربي هنا، هل أقول لك سرا ولا تبوحي به لأمك؟
ــ قل يا جدي أوعدك أنه في بير
*إنها أميرة البيانو تغني لي
ــ لكنها تصرخ بلغة غير مفهومة يا جدي
*قلت لك تغني يا نانا، هي لا تصرخ هي تغني لي أغنية جديدة كل يوم
ــ هل تعرفها يا جدي؟
*لا شأن لك يا نانا هذه أشياء الكبار

كانت طنط مادلين جارتنا المسيحية جميلة ذات بشرة بيضاء وشعر كستنائي وابتسامة مشرقة وجذابة، كنا بمثابة أسرة واحدة خاصة عند حدوث مكروه لأي أحد منا، تصوم معنا شهر رمضان ونتبادل الدعوة على الإفطار ونتقاسم الأفراح والأحزان،.

تأتي الينا يوم أجازة أمي صباحا بصينية عليها فنجانان من القهوة تشرب معها ثم تقرأ لها الفنجان، عندما أقام جدي لدينا أصبحت تأتي بثلاثة فناجين وتقرأ له الفنجان أيضا.

كان جدي ينتظرها بحب ويقول لي بعد أن تغادر، عارفة يا نانا أنا أحب مادلين ليه؟
ــ لأنها تقرأ لك الفنجان طبعا يا جدي
*لا يا حبيبتي أنا ألح عليها تقرأه كي أجلس معها أطول فترة ممكنة فهي تشبة أميرة البيانو.
ــ هل رأيت أميرتك عن قرب يا جدي ؟
*وبعدها معك يا نانا قلت لكِ هذه شؤون الكبار
ــ لاحظ يا جدي أن حضرتك من تبدأ الحديث عنها ولست أنا
*أنتِ حبيبتي الشقية يا نانا

للمزيد..

هل حقق مسلسل ما وراء الطبيعة حلم العراب ؟ رؤية بقلم مروة طلعت

مرض جدي ولم يعد يستيقظ لصلاة الفجر، فكنت أنام الى جواره حتى ألبي طلباته إن أراد شيئا، وكلما استرد عافيته قليلا يسألني: هل سمعتِ غنائها اليوم؟
ــ أقول: نعم يا جدي
*أخبريها أنني لم أتركها برغبتي وأنني سأنتظرها هناك
ــ أين يا جدي؟
يغط في النوم دون أن يجاوبني

ساءت حالة جدي وأصبح لا يفيق إلا قليلا، وفي إحدى المرات همس لي: ختامه مسك يا نانا ختامه مسك يا حبيبتي..
لم أكن أعرف معنى ما يقوله حتى حدثت بعض التصرفات الغريبة في البيت وكانت الساعة قد تعدت الثانية بعد منتصف الليل، أشرق الصباح وعرفت أن جدي قد توفاه الله.
بكيت بحرقة عليه وأصررت أن أدخل حجرته وأقبل جبينه وهو راقد فوق السرير، حينها رأيت جسده وقد تمدد وأصبح أطول من السرير لدرجه أنهم أرقدوه مائلا.
في ذلك اليوم أقسمت لهم أني سمعت أنفاس جدي بجوار أذني على السرير عندما هممت بالنوم ولم يصدقني أحد.
منذ وفاة جدي توقف الغناء وصوت الموسيقى من أميرة البيانو فتذكرت وصية جدي واستجمعت شجاعتي وقررت الذهاب إليها لأبلغها الرسالة.
غافلت أبي وأمي وتوجهت الى العمارة التي تسكن بها أميرة جدي الغامضة، صعدت الى الدور الثالث وأنا لا أعرف كيف واتتني الجرأة لأدق جرس شقتها وأنتظر.

سمعت حركة خلف الباب ثم انفتحت الشراعة الزجاجية ورأيتها لأول مرة، سيدة بملامح أوروبية بيضاء الوجه وشعرها الكستنائي على كتفيها غير ممشط وملابسها غير مهندمة.

 أخذت تحدق في بابتسامة حانية ثم فجأة مدت يدها من الشراعة وكأنها تريد أن تصافحني وبلغة عربية مكسرة قالت لي: تحبي أغني؟ أنا أغني هو يرجع.. هو يسمع هو يفهم، أنا أغني هو يعرف مكاني، هو يرجع ……
قلت لها: جدي يقول لكِ إنه سينتظرك هناك
تغيرت ملامح وجهها بسعادة بالغة ثم بصوت عال بدأت الغناء، لا أدري لماذا سمعت صوتها وقتها غناءا مع أنني كنت أسمعه على البعد صياحا !!

تمت.. رواية عزف على أوتار الحياة للأديبة زيزيت سالم

للمزيد..

البنات والصيف | الصورة التي فجرت ثورة عبد الناصر على إحسان عبد القدوس

صفحتنا الرسمية فرندة – Farandh

رواية عزف على أوتار الحياة للأديبة زيزيت سالم |مكتبة فرندة
رواية عزف على أوتار الحياة للأديبة زيزيت سالم |مكتبة فرندة
شارك المقالة