نعيد نشر مقال هيافة للراحل أحمد خالد توفيق
لقد كبر أولادي، ما شاء الله، هذا يسرني بالتأكيد لكنه يحرمني من حقي في ممارسة بعض ما اصطلح الناس على أنه (هيافة).. ولهذا قصة يطول شرحها.
الهيافة هي مصطلح عامي معناه (التفاهة) مع شيء من الخَرَقْ وانعدام المسؤولية وتضييع الوقت فيما لا طائل من ورائه.. مع لمسة سخف لابد منها طبعًا.
يجب أن أعترف هنا اعترافا خطيرا هو إنني أحب قراءة مجلة (ميكي) جدًا .. هذا التدفق الفني الجميل بريشة أعظم فناني العصر مع ذلك العالم الساحر البسيط .. عالم من البط والكلاب والفئران وكل بيت يبنيه صاحبه بنفسه، وأمامه سيارة مضحكة وصندوق بريد خرب، والمليونير العجوز الذي يقضي الوقت في عد المال، والبطة العصبية المغرورة الظريفة معدومة المواهب .. الخ ..
اعشق هذا العالم الساحر بشدة، وكنت أتابعه بشغف حتى أنهيت الجامعة، فبدا منظري غريبا جدا وأنا أبتاع هذه المجلة من بائع الصحف العجوز المتشكك عم (مأمون)، خاصة وهو لا يكف عن ترديد لفظة (يا دكتور) لا يقصد بها احترامي بل توبيخي طبعًا.
د.رفعت إسماعيل يعود من جديد في ما وراء الطبيعة (صور)
لو أنك رأيتني وأنا أبتاع المجلة وأنظر حولي في حذر، لظننت أنني لا أبتاع مجلة أطفال ولكن جرعتي اليومية من الهيرويين أو الكوكايين.. قد أملك بعض (الهيافة) لكنني بالتأكيد لا أرغب أن يعرف الناس جميعًا بذلك. ثمة حل معقول هو أن أفعل ما أريد ولا أبالي بالناس.. لكن السجون على قدر علمي تعج بهؤلاء الذين فعلوا ما أرادوا ولم يبالوا بأحد.
هكذا توقفت عن شراء المجلة لفترة طويلة جدًا إلى أن عرفت الحل السري: تزوجت وأنجبت..! الآن صار عندي طفل جميل لابد من تثقيفه وإمتاعه .. هكذا عدت إلى بائع الصحف العجوز العم مأمون لأقف في فخر وكبرياء وأقول:
ـ”هات مجلة ميكي لمحمد ابني …”.
فيقول في رضا وطيبة:
ـ ”بارك الله لك فيه”.
الآن لم أعد مصابًا بالهيافة وإنما أنا مجرد أب مخلص..
أمسك بالمجلة في تعال وكبرياء ولسان حالي يقول: ”كيف يقرأون هذه الأشياء التافهة؟”. ثم أعود لداري وأنا موشك على التحليق طربا وأتشمم غلاف المجلة الصقيل عطر الرائحة . ما أجملها !.. يجب أن يعبئوا رائحة الأغلفة هذه في زجاجات.
في البيت تنظر لي زوجتي في شك وهي مستعدة في أي لحظة كي تتهمني بالهيافة لو اكتشفت أنني أقرأ هذه المجلة، لذا أضغط على أعصابي حتى المساء ثم أضع الطفل في فراشه وأقرأ له القصص الموجودة فيها تباعًا.. صحيح أنه ينام بعد صفحتين لكنني أب متفان أواصل قراءة المجلة له حتى آخر صفحة.
مكتبة فرندة | مقال حديث عن العيد لـ أحمد خالد توفيق (رائحة الضأن وعيد الأضحى)
لا يقتصر الأمر كما ترى على قراءة مجلة ميكي. مثلاً لم يعد مما يليق بي أن ألعب مباراة كرة أمام البيت، لكنك تستطيع ذلك لو صرت أبا حنونا يلعب مع ابنه .. سني لا تسمح بدخول السينما اسبوعيا لكني أب طيب مصمم على تسلية ابنه. أما عن الحلوى والبطاطس المقلية وكل تلك الأشياء لذيذة المذاق الموضوعة في أكياس (تشخشخ)، والتي يصر الكبار على أنها سامة، لكنها لم تكن موجودة في طفولتي وقد صار تذوقها مزاجا حقيقيا .. فقط أبتاعها لابني ثم ألتهم منها الكثير لأتأكد من أنها لن تضر صحته.
أنا أب متفان حقا .. إن آباء كثيرين يحسدونني على سعة الصدر التي أملكها مع ابني ..
كبر ابني ولم يعد يهتم بهذه الأشياء، وكلما اقترحت عليه أن يقرأ مجلة ميكي هز كتفيه في اشمئزاز وقال:
ـ”أنا لم أعد طفلاً !”.
هكذا وجدت أن الوغد تسبب في حرماني من قراءة المجلة لمدة عامين، خاصة وأمه تعرف جيدا أنه لا يحب القراءة أصلاً… دعك من أنه الطفل الوحيد الذي يمقت الحلوى والبطاطس المقلية وكل تلك الأشياء لذيذة المذاق الموضوعة في أكياس (تشخشخ). لقد دمر حياتي ومستقبلي لذا وجدت أن الحل الوحيد هو أن أنجب ثانية.
الآن تراني أبتاع مجلة ميكي معلنا أنني أبتاعها من أجل مريم ابنتي .. من ثم يدعو لي عم (مأمون) .. أبتاع حمولة كاملة من البطاطس المقلية والحلوى، وأذهب للسينما أسبوعيا وألعب الكرة حيثما أردت لأنني أفعل هذا لمريم!.
مكتبة فرندة | لعنة الوضع الوسط للراحل أحمد خالد توفيق
أمس قالت لي مريم إنها لا تحب مجلة ميكي وإنه لا داعي لشرائها. احمرت عيناي غيظا وزمجرت ثم اتهمتها بالغباء والسطحية والجهل.. سوف تقرأين مجلة ميكي سواء أردت أو لم تريدي.. لست مستعدا لأن أنجب طفلا كلما أردت قراءة هذه المجلة، وإلا لوجدت نفسي مثل رمسيس الثاني الذي رزق بـ 99 ابنا.. لابد أن رمسيس الثاني كان يعاني بعض (الهيافة) ويحب قراءة مجلة أطفال فرعونية تطبع على برديات.
هناك حل ثوري آخر هو أن أجد لنفسي وكرا سريا في أحد أزقة المدينة القذرة، حيث أستطيع أن أختلي بنفسي وأمارس الهيافة كما أريد، وهذا الوكر سوف أملؤه بمجلات ميكي وأكياس البطاطس حيث آكل وأقرأ إلى أن أفقد صوابي تماما .. لكنه حل خطر لو عرفت به زوجتي .. ألا ترى هذا معي؟
مقال هيافة أحمد خالد توفيق
للمزيد..
مكتبة فرندة | مقال أكل زبالة للراحل أحمد خالد توفيق
صفحتنا الرسمية فرندة – Farandh