خيري حسن يكتب.. محجوب عبد الدايم ما زال بينكم

خيري حسن يكتب.. محجوب عبد الدايم ما زال بينكم

فى ذكراه:
الفنان حمدي أحمد : “محجوب عبد الدايم” مازال بينكم!
•••
[..وليكن لي أسوة حسنة في «سالم الإخشيدي»، وذلك لا ريب ظفر بوظيفة لأنه خائن، ورقي لأنه قواد]!
التوقيع: محجوب عبدالدايم .. [القاهرة – 30]
•••
[القاهرة – 1966]
محجوب عبدالدايم.. هو بطل رواية القاهرة الجديدة لأديب «نوبل» نجيب محفوظ والتي تحولت إلي فيلم سينمائي فى ذلك العام، يُعد ضمن أفضل 100 فيلم مصري في تاريخ السينما. لعب دور «محجوب» القدير حمدي أحمد وهو الفنان الصادق، الواضح، والمثقف، وصاحب الرسالة، والأمانة، والملامح المصرية الأصيلة.
•••
[الأسكندرية – صيف – 1966]
بعدما وقع اختيار المخرج القدير صلاح أبوسيف علي شاب اسمه حمدي أحمد – حينذاك – كان قد رآه علي المسرح، ليلعب الدور أمام الراحلة سعاد حسني، عرض الاسم علي نجيب محفوظ. في البداية رفض هذا الترشيح.. لكون الشخصية صعبة، ومركبة، وتحتاج ممثلاً له خبرة وأكثر دراية بأبعاد الشخصية، لكن أمام أصرار صلاح أبوسيف، وافق نجيب محفوظ، حيث كان يشارك هذا الشاب في عرض مسرحي هناك، وجاء به للقاهرة وعرض عليه الدور، قال له أمامك أربعة أيام، وتأتي بعدها لتوقيع العقد، وبالفعل عاد إليه، لكن طلب قبل توقيع العقد الجلوس مع الأستاذ نجيب محفوظ، ورغم اندهاش واعتراض صلاح أبوسيف علي طلب حمدي أحمد- علي افتراض من أنت حتي تجلس مع نجيب محفوظ- وافق وحدد له المكان والزمان حتي يلتقي بالأستاذ، وقد كان!
[القاهرة – مقهي الفيشاوي – 1966]
– نجيب محفوظ يسأل: خير يا حمدي أفندي.. قيل لي إنك تريد الجلوس معي؟
– نعم يا أستاذ.. جئت حتي نتحدث عن شخصية محجوب عبدالدايم قبل أن تدور الكاميرا.
– اتفضل
– يا أستاذ حضرتك كنت قاسي جداً علي محجوب عبدالدايم.
– بالعكس.. هذا أقل ما يكون عليه.. فهو.. قذر، قذر جداً!
– لكنني أراه غير ذلك
– وكيف تراه يا حمدي أفندي؟
– حضرتك تراه متهماً.
– نعم وهو كذلك.
– لا.. يا أستاذ.. أنا أراه وثيقة اتهام ضد المجتمع، المتهم هو المجتمع وليس هو، لو كنا في مجتمع صحيح سليم، ولا يوجد فيه محسوبية، ولا وساطة، وفيه التعليم السليم والعلاج السليم، والوظيفة التي تحميه من الفقر، ما كان محجوب عبدالدايم هو محجوب عبدالدايم الذي نعرفه في الرواية والذي سنراه في الفيلم.
– سكت نجيب محفوظ قليلاً.. ثم نظر لهذا الممثل الشاب الذي يراه لأول مرة.. وقال له: اتفضل يا حمدي.. مثل الدور كما تراه.. أنت، لا كما كتبته أنا.!
بسعادة بالغة قام من أمامه، بعدما فرغ من فنجان قهوته، وغادر المقهي الذي التقي الأستاذ عليه.. وترجل في شوارع القاهرة، ينظر في وجوه البشر، يبحث في عيونهم عن محجوب عبدالدايم حتي يراه قبل أن يتخيله أو يقدمه علي الشاشة.
•••
كان صاحب شخصية متميزة ؛ تحمل ملامح الشخصية المصرية الأصيلة، المعجونة بتراب وطمي النيل، والمنحوتة علي ملامح وجهه. و التى تحمل أجزاء من ملامح القدماء الفراعنة، الضحكة.. ضحكة فلاح، والصوت صوت مقاول أنفار، والبشرة بشرة تاجر من تجار الصعيد جاء للقاهرة يبيع الغلال، هو باختصار- الأصل والرسم- مصري صناعة فرعونية 100٪ لم يتغير، ولم يتلون، ولم ينافق، ولم يهادن، ولم يبع قيمه ومكتسباته الفنية والشخصية من أجل شهرة أو مجد زائف.
تقول لى ابنته السيدة ميريت حمدي أحمد: (كان أبي نموذجاً صعبا تكراره، صحيح أي ابن سيقول ذلك عن أبيه، أنا أفهم ذلك، وأقدره تماماً، لكن بكل صدق أقول إن حمدي أحمد كإنسان كان حالة مختلفة، كان بالنسبة لنا.. الإبداع والثقافة والفن والدين والأخلاق والصدق، والعطف، والحنان، ثم سكتت قليلاً وقالت: يوم العزاء كنا في عزاء السيدات وفي حالة صعبة، وفجأة دخلت علينا امرأة في السبعين من عمرها، ومنذ أن جلست ظلت تبكي بشدة، وفشلت كل محاولات الحضور في إقناعها بالتوقف عن البكاء، هنا بدأنا نحن (أنا وماما وأختي) ننظر لبعضنا البعض ونظرات أعيننا تقول هل هذا الذي نراه مشهد من مشاهد السينما، وأن هذه المرأة ستعلن أمامنا انها زوجة ثانية لأبي كما يحدث في السينما! عرفنا منها إنها كانت زوجة لصديق له رحل عن الدنيا وترك لها أطفالا صغارا.. فظل هو -رحمة الله عليه- يعطف علي أطفالها، وينفق علي أولادها في التعليم دون علم أي شخص في الأسرة حتي والدتي نفسها، هذا الموقف أحكيه ليس من سبيل «المَن» علي أحد ولكن لأقدم لك صورة أخري قد تعرفها عنه.
•••
– اسمه حمدي أحمد محمد بخيت ولد في 9 نوفمبر عام 1933 ورحل في 8 يناير 2016، سجنته قوات الاحتلال البريطاني في مصر عام 1949 وعمره 16 سنة لمشاركته في المظاهرات الاحتجاجية ضد الاحتلال البريطاني لمصر، تخرج فى معهد الفنون المسرحية عام 1961 في الوقت الذي كان يدرس فيه أيضاً التجارة.. لكنه في النهاية ترك كلية التجارة واستمر في المعهد.
تزوج من أخت صديقه من خارج الوسط الفني، وأنجب ثلاثة أبناء (شرويت- ميريت- محمود) قام ببطولة ما يزيد على 35 مسرحية و25 فيلما سينمائيا و30 فيلما تليفزيونيا و89 مسلسلا تليفزيونيا وقدم ما يقرب من (3000) ساعة للإذاعة، انتخب عضواً في مجلس الشعب عام 1979، كان يكتب المقالات السياسية في صحف «الشعب والأهالي والأحرار والميدان والأسبوع».
•••
قلت لها: كيف تعرف علي والدتك قبل الزواج منها؟
تقول ( ميريت ) تعرف على أمي فى منطقة بولاق لانها كانت شقيقة لصديقه،.. وكان أبوه – جدي – يعيش في هذه المنطقة منذ أن جاء من محافظة بالصعيد (سوهاج) للعيش في القاهرة.. وكان تاجراً للغلال، وفي ذلك الزمان كانت منطقة بولاق إحدى محطات تجارة الغلال، وفيها عاش جدي وأبي وباقي الأسرة وذات يوم ذهب أبي إلي بيت الجيران والأصدقاء في نفس الوقت وكان يعرف بالطبع أمي، وبطريقته الجادة الواضحة الصريحة قال لها «أنا أريد الزواج منك»؟ رأيك إيه؟ سكتت ولم ترد! أعاد عليها السؤال، وأيضاً لم ترد، ثم قال لها.. أنا ذاهب غداً إلي الإسكندرية وسأعود بعد ذلك، فأرجو أن تكوني قد حسمت موقفك.
لكنها حسمت الموقف قبل عودته، لأنه لم ينتظر للعودة، بل اتصل بها من هناك، وسألها: ما هو ردك؟ قالت: طبعاً موافقة! ودعني أقل لك إن والدتي تحملت جانبا كبيرا في التربية والتعليم. لكنه هو أيضاً علمنا الكثير.. كان أسطورة في الثقافة وبحرا من العلم والفن. كان حريصاً علي أن نحفظ القرآن الكريم كما فعل معه أبوه. وترك لنا حرية اختيار نوع الدراسة وحرية اختيار طريق حياتنا.
•••
آراؤه السياسية ومواقفه ضد الأنظمة جعلت صناع الفن والمنتجين يبتعدون عنه. وكانوا في فترات كثيرة بسبب مواقفه السياسية أيام السادات يأتي اسمه ضمن الشخصيات التي سيتم اعتقالها.. لكن كان السادات يتدخل في اللحظة الأخيرة ويرفع اسمه..
•••
ميريت تقول: أظن الرئيس السادات كان يدرك أن أبي لا يعارض من أجل المعارضة.. ولا يعارض من أجل مصالح ذاتية له. ولكنه كان يعارض من أجل الوطن.
وأصعب شيء مر علي نفسه.. هو ابتعاده عن التمثيل فى سنوات عمره الأخيرة…
وكانت آخر أعماله الفنية في السينما «صرخة نملة» وفي الدراما التليفزيونية مسلسل «الحارة». وأظن أن هذا كان قبل الثورة. بعدها أصيب بالمرض في المرحلة الأولي ودخل مستشفي استثماريا في اكتوبر وأنفق علي علاجه كل ما كان يملكه. وبعد خروجه من المستشفي، حيث كان قد أصيب بفشل كلوي وتطلب ذلك الغسيل مرة أو اثنتين في الأسبوع. في هذه الفترة جاء له منتج بعمل درامي مميز أحبه أبي جداً.. وحضر نفسه للدور. وحفظه واستعد له، وقبل التصوير بأيام وبعد توقيع العقد جاء له المنتج قائلاً: عفوا يا أستاذ.. النجم الذى معنا فى المسلسل يرفض وجودك، فسأله أبي: ولماذا؟ قال: لأنه خائف أنك تأخذ منه نجومية العمل. فضحك أبي.. لكن من داخله كان حزيناً.. وأظن أن هذا الموقف تسبب في انهيار معنوياته أكثر من المرض، بعدها جاءت مرحلة المرض الثانية والتي تفضلت القوات المسلحة بعلاجه فيها في مستشفي كوبري القبة علي نفقتها.
•••
[الاسكندرية- 1983]
هذا الموقف المؤلم الذي تعرض له الفنان حمدي أحمد، هو أحد المواقف الكثيرة التي تعرض لها في عالم التمثيل..
فلو عدنا قليلاً للوراء.. تري أن بعض نجوم العمل في مسرحية «ريا وسكينة» التي لعب هو في بدايتها ولمدة 8 شهور دور عبدالعال فيها- الدور الذي لعبه الفنان أحمد بدير فيما بعد ـ وحقق به نجاحات جماهيرية واسعة.. وهذا يبدو من باب الغيرة الفنيةـ حرك النفوس والعقول تجاهه فبعد مشادات دارت بينه وبين الراحل عبدالمنعم مدبولي والفنانة المعتزلة شادية أسفر كل ذلك عن أن الفنانة شادية تعلن للمنتج الراحل سمير خفاجي موقفها قائلة: يا حمدي أحمد يترك المسرحية.. أو أتركها أنا «فاختار المنتج وقتها الفنانة شادية.. وغادر هو العمل كعادته ـ في هدوء.
•••
القاهرة – 1996
حسب استفتاء أجراه فى ذلك العام مع عدد من نقاد السينما الكبار حول أفضل مائة فيلم في تاريخ السينما تمكن حمدي أحمد من أن يحصد 5 أفلام منها شارك في بطولتها وهي: القاهرة 30 عام 1966. المتمردون عام1968 الأرض عام 1970. العصفور عام 1972. أبناء الصمت عام 1974.
•••
القاهرة – 2021
هذا هو حمدي أحمد الفنان الثائر.. الغاضب الباحث دوما عن عالم أفضل للمجتمع ليعيش المواطن فيه، دون أن يخرج علينا ـ من المجتمع ـ نماذج جديدة من «محجوب عبدالدايم» تلك الشخصية التي حولها الفقر والقهر الي كائن بشري مشوه، ليس له كرامة. ولا نخوة، ولا رجولة. ولا شرف. ولا وطنية. لقد رأي نجيب محفوظ «محجوب» ظالما. ورآه حمدي أحمد مظلوماً.. وما بين هذا وذاك يبقي مطروحا وبقوة.. هل سيتوقف المجتمع عن انتاج وتصدير نماذج بشرية جديدة مثل محجوب عبدالدايم؟
مجرد سؤال كان حمدي أحمد في كل انتاجه الثقافي والفني والسياسي يعرف الاجابة عنه. ويحرض عقولنا لتعرف هي الأخري تلك الاجابة. محجوب عبدالدايم .. لم يكن ظالماً.. محجوب عبدالدايم كان مظلوماً من المجتمع وهذا يعني أن محجوب عبدالدايم سيظل يعيش بيننا.. والسبب هو المجتمع.
خيري حسن
القاهرة – يناير – 2021

للمزيد..

وفاة وحيد حامد |إسلاميين ورجال سلطة هؤلاء هاجمهم المخرج الراحل

صفحتنا الرسمية فرندة – Farandh

شارك المقالة