رواية أولاد حارتنا ..هل تحول ابداع نجيب محفوظ لكفر؟ أولاد حارتنا
للأديب: نجيب محفوظ.
أولاد حارتنا .. الرواية الشائكة
عندما تتحدث عن رواية حساسة كهذه هل عليك أن تتحايل أم تكون واضحاً؟
الرواية تتناول قصص الأنبياء كما ذُكرت في الكتب المقدسة برؤية جديدة تستحق الإعجاب
فكان محفوظ يستقي من القرآن غالباً
ويخرج لك عسلاً عقلياً مصفّى
ومن أفرز له هذا العسل سوى العقل الذي أكرمه الله به ليمتعنا جيل بعد جيل.
“فلماذا كانت آفة حارتنا النسيان؟!.”
قرأت طبعة دار الآداب اللبنانية, وهي طبعة شبه كاملة من الرواية تم اقتطاع بعض الفقرات منها فقط. عكس النسخ المصرية من الكتاب والتي تم غربلتها لإخراج “رواية حلال”, بل ولقد قامت إحدى دور النشر بالترويج لهذه النسخة الحلال في مصر عن طريق أحد شيوخ الإسلام الوسطي بطلب من نجيب محفوظ نفسه, والذي ستجد صورته على غلاف الكتاب مع فتوى تحليل قراءته.
بعد ثورة/انقلاب يوليو 1952, قرر نجيب محفوظ ومع انتهائه من ثلاثية القاهرة, اعتزال كتابة الرواية بعد أن كان متفرغاً لها. فقد اعتقد بأنه لم يعد هناك سبب لكتابته؛ فقبل الثورة كان يكتب روايات واقعية نفسية واجتماعية ليصلح بها حال المجتمع, أما وبعد أن جاءت الثورة فالبلد تعيش حلم الإصلاح بالفعل.
ولكن أحلامه سرعان ما تهاوت, فالثورة تحولّت لبلطجة ودكتاتورية في يد بعض الضباط, والرقابة على الإبداع اهتاج لأقصى حدوده, والإصلاحات الاجتماعية سرعان ما اندثرت.
فقرر العودة للكتابة. وفي ظل الرقابة المتسلطة, طرق نجيب باب نوع جديدة تماماً من الأدب, فتحوّل عن الكتابة الواقعية لمصلحة الكتابة الرمزية. فما الذي سيتسع لنشر أفكاره غير الرمزية؟
وبدأ في نشر روايته الرمزية الأولى “أولاد حارتنا” كحلقات مسلسلة في جريدة الأهرام المصرية بين 1959 و 1960.
وتم حظرها في مصر 1959 بعد اتحاد الجنرالات والإسلاميين ضده, ولا أدري أكان اتفاق مصالح أم استغلال أحد الطرفين للآخر
وعليه تم طبعه في لبنان كما جرت العادة مع الكتب المحظورة في مصر, بواسطة دار الآداب
المنع في مصر تم بعد الاتفاق غير المكتوب بين محفوظ وحسن صبري الخولي الذي يصفه محفوظ في حوار مع الباحثة السويدية ماريناستاغ بأنه “مندوب الرئيس عبد الناصر والممثل الشخصي لرئيس الجمهورية” وهو على وجه الدقة الرقيب العام بحكم منصبه كرئيس لهيئة الاستعلامات وقتها
***
بعد جائزة نوبل ومن بعدها محاولة اغتياله, أتيحت فرص لنشر الرواية في مصر ولكنه رفض حفاظا على رقبته في مكانها, بل وتصدى لمحاولة دار الهلال لإعادة طبع الكتاب في مصر
وكان علينا أن ننتظر الكثير من الأعوام حتى وفاته, فيقوم مالك حقوق نشر أعماله -دار الشروق- بنشر نسخة منقحة حلال من الكتاب
وعار عليك إذا قبلت على نفسك قراءة الرواية مقصوصة من أي أحد يفرض نفسه كوصي عليك
***
كانت “قصة الأنبياء هي الإطار الفني ولكن القصد هو نقد الثورة والنظام الاجتماعي الذي كان قائما” كما قال عم نجيب في أحد لقاءاته,
فخلفيته الاشتراكية واضحة في الرواية التي يدور الصراع الأساسي فيها على السلطة بين أهل الحارة/الشعب وبين الفتوات/الحكام وكيف أن الفتوات لا يعترفون بالجبلاوي الذي يناديه الفقراء دائما فلا يسمع لهم, أي رؤية جدلية تاريخية بامتياز
فلا تشرع في القراءة حتى تندمج مع الأحداث وتتشرب نصائح نجيب لمواجهة الفتوات:
“وقلب عينيه في الوجوه المستبشرة وقال :
– وبيدكم ألا يعود الحال كما كان , راقبوا ناظركم فإذا خان اعزلوه , وإذا نزع أحدكم إلى القوة اضربوه , وإذا ادعى فرد أو حي سيادة أدّبوه , بهذا وحده تضمنون ألا ينقلب الحال إلى ما كان , وربنا معكم.”
“لا فتوة في حمدان , ولكن ينبغي ان يكونوا فتوات جميعا على من يطمع فيهم.”
ولقد نقل لنا نجيب الصراع كما هو بالفعل, فوصف المستضعفين بما لهم وعليهم فعلا فهم ليسو ضحايا وإنما مستضعفين يهللون للأقوى ويضمرون الكثير من الحقد والشر
“وما إن يأنس أحدكم في نفسه قوة حتى يبادر الى الظلم والعدوان, وما للشياطين المستترة في أعماقكم إلا الضرب بلا رحمة ولا هوادة”
وعرّض نجيب في أحد المشاهد بالضباط الحاكمين قائلاً:
“الفاتحة للعسكري .. قلع الطربوش وعمل وليّ”
ولهذا ولما سنسرده تاليا من إشكالات دينية تغضب المتعصبين الذي يخشى حشدهم النظام, أصبحت الرواية ممنوعة باسم النظام!!
ولا يجب أن ننسى دور الشيخ محمد الغزالي الذي كان أحد المقدمين بلاغ لمنع الكتاب ومحاكمة الكاتب, فإن كنت متابع جيد, فسترى الشيخ موجود في كل أحداث منع وإرهاب المفكرين, حتى أنه وقف في المحكمة يدافع عن قاتل فرج فودة.
***
أولاد حارتنا
لقد حمل نجيب محفوظ مهمة صعبة حينما قرر إعادة كتابة تاريخ الأديان الإبراهيمية في قالب الحارة ليعمل إسقاطاته الاجتماعية والسياسية, وإن كانت المصادر أحادية الجانب-رؤية إسلامية للتاريخ-. و هذا محبط قليلاً بسبب حرق الأحداث, لأننا نعرف مسبقاً تسلسل الأحداث في قصص الأديان الإبراهيمية التي بني عليها الحبكة
“من فتوة حارتنا؟ مضى الناس يتساءلون عنه مذ رقد سعد الله في قبره. وأخذ كل فريق يزكي رجله. فآل جبل قالوا إن يوسف أقوى فتوات الحارة وأوثقهم نسباً بالجبلاوي. وقال آل رفاعة إنهم حي أنبل من عرفته الحارة في تاريخها, الرجل الذي دفنه الجبلاوي في بيته وبيديه. وقال آل قاسم انهم هم الذين لم يستغلوا النصر لصالح حيهم ولكن لصالح الجميع فكانت الحارة على عهد رجلهم وحدة لا تتجزّأ يسودها العدل والأخوّة.”
“كل واحد منهم يفاخر برجله بغباء وعمى , يفاخرون برجال لم يبقى منهم الا أسماؤهم , ولا يحاولون قط ان يجاوزوا الفخر الكاذب بخطوة واحدة ! أولاد كلب جبناء”
***
الرواية تقع في 114 فصل, أي نفس عدد سور القرآن. رمزية بالكامل زي كل أعمال نجيب من بعد ثلاثية القاهرة, لكنها رغم ذلك قصة ممتعة في سردها لعامة المبتدئين
ولقد حاولت قراءتها في مراهقتي وتيقنت بفشلي في إدراك المعنى وراء العبارات بعد أول بضع صفحات, فقررت تأجيلها إلى حين
الافتتاحية تقع في ثلاث صفحات ونصف, وهي من أعظم النصوص الرمزية اللي ممكن تقابلك في حياك كلها, نص يستحق التصنيف ضمن أدب نوبل فعلا
كونك ستفهم الرمزية في الرواية أو لأ سيتحدد بعد قراءتك للمقدمة/الافتتاحية, والتي لو قرأت منها أكتر من سطرين كاملين دون إدراك الرمزية فيهم, فأنت غير مؤهل لقراءة الكتاب. فلتنتظر حتى تنضج أو فلتبحث عن من يفسر لك الرمز, وهو شيء موجود في كثير من الكتب والمقالات, ممكن أرشح منهم الفصل الخاص بالرواية من كتاب “الله في رحلة نجيب محفوظ الفكرية”
*
الكاتب يحاول أن يركز على أحداث معينة وعلى أفكار معينة ليوصلها لك. ستستنبطها بسهولة, أو بصيغة ثانية الكاتب هو الذي سيوصلها لك, وسيغرسها فيك حرفياً.
*
من الحاجات البارزة التي تكلم عنها هي تملّك النساء في المجتمع اليهودي, وكيف أنه عند الخطيئة يتم معاقبة المرأة فقط دون الرجل, وكأنما ليخوّفوهم, حتى لا تتمرد أحدهم فيخرج الباقي عن قطيع الطاعة !!.
*
ثم ينهي نجيب محفوظ كل عصر بـ”آفة حارتنا النسيان”.
“ولولا أن آفة حارتنا النسيان ما انتكس بها مثال طيب. لكن آفة حارتنا النسيان”
*
قراءة الكتاب ضمن مجموعة قراءة, ومناقشتهم بعد كل فصل هو خيار ممتاز, وكنت أتمنى أن يكون متاح لي.
***
عن الرمزية في الرواية, وتأويلها
نجيب محفوظ لاعتبارات سلامته الشخصية فضّل التراجع قليلاً وعدم الإفصاح عن رأيه بصراحة وخصوصا قدام جمهور شاشة التلفاز الأكثر دوجمائية من الجمهور القارئ لرواياته, وكل عباراته في اللقاءات تقدر بكل سهولة تأولها لأكتر من معنى,
وأنا أقدّر حرصه على سلامته وسلامة عائلته, لكنني أتحفّظ على حقي في أن أقوم بتأويل الرواية في السياق اللي أنا شايفه متناسق مع باقي الأحداث وإن صرح هو بالعكس !!. وكما يقال أيضاً فالرمز يفسّر بعدد المفسّرين. وأنا أرى بأن:
– موت أو اختفاء [الجبلاوي يئوّل لانقطاعه عن إرسال الأنبياء, أو انتهاء عصر المعجزات, أو عدم اعتماد العلم على الميتافيزقيا والغيبيات واعتماد التفسيرات المادية للكون
– عرفة رمز العلم قتل الخادم الخاص بجبلاوي ولكنه لم يقتل جبلاوي نفسه, ويرمز لأنه لم يقتل الإله, العلم فقط قتل خادم الإله, أو من يعدون نفسهم بعد الإله,
فترتب عليه و كأن الإله مصيره الموت بدون خدمه, كإله مزيف !!
أو بتفسير أكثر مرونة, فض سيطرة رجال الدين على شئون الحياة العامة, وإجبارهم على العودة لمعابدهم.
-إن الفتوات استُبدلت بالأسلحة اللي صنعها العلم والتي كان هدفها خدمة أهل الحارة, بل واستُخدمت لقمعهم وزيادة أرباح الطغاة. وهذا تأثير مباشر للحرب العالمية الثانية في نفس الكاتب
– يؤكد نجيب على أن الدعوات للرجوع لسيرة الجبلاوي من جديد (الإسلام السياسي) ليست حلاً, فهي مجرد هلاوس رآها عرفة, ناتجة عن إحساسه بالذنب ليس أكثر, وتم ذكر أنها كانت هلاوس صراحة عكس ما ذكره ضمنيا مع الرسل السابقين,
ولهذا قُتل وتركت النهاية مفتوحة, فقتل عرفة تعني فشل مشروع الإسلاميين لفرض الغيبيات على العلم بعد خسارة العلم والمادية معركة أخلاقية خلال الحرب العالمية الثانية
ونجد هؤلاء الإسلاميون يروّجون أن نجيب اعترف بهم, وجعل عرفة يعود لجبلاوي اعترافاً بطريقهم, ولكنهم لا يذكرون أن نجيب قال على لسان حنش, بأن هذه العودة لجبلاوي –طريق الإسلاميين- مجرد هلاوس, ولا يذكرون أيضاً أن طريقهم هذا أدّى لمقتل عرفة (العلم)
ولكنه منطق يعتمد على جهل المستمع بأحداث الراوية, ولكن كيف يعلم هذا الجاهل بها إذا كانوا قد منعوه قبلاً من قراءتها لأنها حرام؟ إنّهم يجهّلونه أولاً بقطع صلاته عن العالم, ثم يستغلّون جهله ثانياً
*
بعض المفاتيح اللغوية لرموز أسامي الشخصيات:
الجبلاوي >>> [الله, لأنه جبل آدم من طين على صورته
أدهم >>> آدم, فقط احذف حرف الهاء
إدريس >>> إبليس, نفس وزن الكلمات
همام وقدري >>> هابيل وقابيل, نفس وزن الكلمات
جبل >>> موسى, لأن الله كلمه على جبل طور سيناء
رفاعة >>> عيسى, لأن الله رفعه عنده
قاسم >>> محمد, لأنه قسم/شق القمر
عرفة >>> المعرفة/العلم
***
عموما, فأيا كان توجهك فأنصحك بأن تحاول المحافظة على نفسك كإنسان يستطيع الاستمتاع بعمل فني جيد, حتى وان كان متعارض فكريا معه.
وكملحوظة هامشية للغاية, فأنا أتعجب ممن يرفض أن يرى شخصياته التي يدّعي حبها أمامه, فكيف يكره أن يرى أحدهم, وإن كان على الورق, يسلك السلوك الذي يحب الناس أن يسلكوه؟!
للمزيد
نجيب محفوظ ..نبيا رسالته التشاؤم!
صفحتنا الرسمية فرندة – Farandh