أنا والقانون والفن | حكاية حكايات توفيق الحكيم (بقلم الدكتور عاطف معتمد)
أنا والقانون والفن !
12 قصة قصيرة من السيرة الذاتية لـ توفيق الحكيم حين كان يعمل وكيلا للنائب العام في مناطق مختلفة من الدلتا والصعيد. صدر الكتاب في عام 1973 لكن أحداثه تدور كلها قبل ذلك التاريخ بربع قرن على الأقل، حين كانت مصر تعيش في الفترة الملكية السابقة على عام 1952.
هناك ثلاثة أسباب تجعل قراءة هذه الكتاب فائدة متصلة:
1- أن القصص تعد توثيقا للحياة في مصر في النصف الأول من القرن 20، ولا سيما طبيعة عمل القانون (أو لا عمله!) وأنواع المشاكل القضائية التي كانت ترد للمحاكم في فترة من البراءة المجتمعية إن لم تكن السذاجة والبداءة.
2- أن توفيق الحكيم يكشف لك عن أسباب خروجه مبكرا من ميدان القضاء لسبب أساسي هو أنه “فنان”. والفنان لا يحب القيود والنظام الصارم بينما يحب الخيال والحرية ويؤمن بالحدس ويصدق القلب، وهذه كلها عناصر لا تصلح للعمل في هذه المهنة التي تقوم على الأدلة والقرائن والتربص والتلبس.
3-أن طيفا من الحياة السياسية المصرية والصراع الاجتماعي مندس في هذه القصص بطريقة غير مباشرة تتجاوز الزمن الذي وقعت فيه لتعبر بك إلى العصر الحاضر.
4- القصص في ظاهرها بسيطة ساذجة، تدعو على الضحك، كمحاكمة متهم بسرقة دجاجة دخلت برغبتها إلى بيته فاتخذها طعاما، وحين قاضاه جاره بالتهمة وقف يدافع عن نفسه أمام القاضي بأنه لم يسرقها بل هي التي جاءت إليه من تلقاء نفسها ولم يخرج هو لسرقتها.
أو ذلك الحاوي الذي يحاكم بتهمة التشرد ويدافع عن نفسه أمام القاضي بأنه “فنان” لا فرق بينه وبين الفنانين الذين يلقون احتراما وتقديرا من الدولة.
5- بعض الإشارات ذات دلالة تاريخية، كالتحقيق في انتقال مومس من مكان لآخر دون إبلاغ رسمي.
أو كطلب الجيش البريطاني عددا ضخما من البط من الريف المصري فيقوم الحكمدار باقتطاع حصة خالصة له ولأصحابه ويدونها في الدفاتر كفاقد تعرض للنفوق خلال عملية الجمع من الفلاحين والنقل للقاهرة.
بينما الحقيقة أنه لم تمت بطة واحدة بل التهمها الحكمدار وأصحابه، وقد عرف الحكيم ذلك خلال التهامه واحدة منها في ضيافة الحكمدار.
6- بعض القصص تقوم على المفارقة لكنها تدس في التفاصيل أدلة على طبيعة المحسوبية والفساد في المجمتع وفي القضاء وفي الحكومة، وتعرض لقضية خطيرة في شكل فكاهي كعملية تدوير المال في الاقتصاد الريفي البسيط وإيقاع الفلاحين في براثن الاستدانة والفقر.
للمزيد..
اللوحة الملعونة ضيف لا نعرفه في حجرة الصالون |The Crying Boy painting
7- أصدر الحكيم هذا الكتاب في وقت أصبح فيه كاتبا مرموقا وبالتالي لم يكن يخشى إظهار بعض النقائص والعيوب في شخصيته. كبعض السلوكيات غير المحمودة التي جاءت في واحدة من القصص حين تعرف على معلم إنجليزي يقيم معه في الفندق في الريف.
كان لدى هذا المعلم آلة موسيقية واسطوانات نادرة.
ورغم أن الرجل رحب بالحكيم مرة ليسمع معه بعض المقطوعات إلا أن الحكيم كان يستغل خروجه للعمل ويدخل غرفته دون استئذان ويدير الآلة الموسيقية والاسطوانات، تحت ضغط وإلحاح الشوق الجارف للموسيقى، كانت شهوة الموسيقى أكبر من الالتزام بالذوق العام، قبل أن يقرر الحكيم أن تكرار هذا لا يليق، ويتوقف في النهاية عن ذلك ويشترى آلة موسيقية واسطوانات من ماله الخاص.
8- يرافق توفيق الحكيم في مهنته طبيب شاب متخصص في علم جديد، ظهر للتو في مصر في تلك الفترة وهو “الطب الشرعي”. يتبادل الحكيم والطبيب الشرعي الأفكار والتجارب ويكتشف صاحبنا أن صديقه الطبيب اختار هذه المهنة الجديدة رغم صعوبتها فرارا من فساد مصلحة الطب في مصر.
125 صفحة لا تخلو من متعة وفكاهة، ولا تخلو من دروس وعبر، كما لا تخلو من أدلة وعلامات على جذور مشكلات البيروقراطية المصرية زمن الاحتلال الإنجليزي والعصر الملكي والنصف الأول من القرن العشرين، وهي جذور تجد لها أغصانا وفروعا ممتدة حتى اليوم.