وقفة مع الذات | كيف نتغير ؟ لـ شيخ الطريقة العزمية السيد علاء أبو العزائم
في مجلة الإسلام وطن
العدد (436) ذو الحجة 1443 هـ – يوليه 2022م
===================
مقدمة: إصلاح الراعي أم الرعية؟
===================
إن تغيير وضع الأمة من حال إلى حال أفضل، هو هدف يسعى إليه كل إمام من أئمة أهل البيت، لكن طرقه وأساليبه ومحاوره تختلف من وقت لآخر، بناء على وضع الأمة، فالذي على بعد خطوة من الصلاح يختلف تغييره عمن بعد عنه بمئات الخطوات.
في الحقيقة هناك طريقان رئيسان للإصلاح في الأمم: إصلاح الراعي، أو إصلاح الرعية.
=========
إصلاح الراعي
=========
يقول العجلوني صاحب كشف الخفاء: إن الناس يميلون إلى هوى السلطان؛ فإن رغب السلطان فى نوع من العلم مال الناس إليه، أو فى نوع من الآداب والعلاجات كالفروسية والرمي؛ صاروا إليه، ثم قال: وأظهر ما فى معناه قول عمر بن عبد العزيز: «إنما السلطان سوق فما راج عنده حمل إليه».
لكنني أرى أن إصلاح الراعي مضيعة للوقت، فإنك قد تستهلك سنوات طوال في إصلاح راعٍ، ويكون مكروهًا ولا يستجيب الناس لإصلاحه، أو تصلحه فيصلح الناس قهرًا، ثم يأتي خلفه فاسد فيعيد الناس إلى فسادهم.
بل إننا إذا أردنا أن نصلح الراعي فلا بد من إمام هادٍ ناصح لا يفارق الراعي يقوِّمه ويصلحه؛ حتى نضمن أنه يقود الأمة بصلاح، وهو أمر غير ممكن؛ لأن أغلب الرعاة لا يقبلون نصيحة الناصحين بسهولة، فكيف يقبلونها بصفة مستمرة؟.
ومن هذا يتبين أن إصلاح الراعي أمر مؤقت، وأننا نريد إصلاح الأمة إصلاحًا دائمًا مستمرًّا، لذلك نسلك مسلك إصلاح الرعية، وهو عندنا أنفع للأمة، رغم أنه يستهلك وقتًا أطول، لكن نفعه يدوم أكثر.
============
لماذا إصلاح الرعية؟
============
إن إصلاح الرعية يعني ضمان وجود راعٍ صالح، اليوم وغدًا وبعد غد، يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (كيفما تكونوا يولَّى عليكم(، فلو أن الرعية صالحة لن يخرج منها إلا رعاة صالحين.
كما أن إصلاح الرعية يحمي الأمة من البلاء، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها؛ إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان؛ إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم؛ إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله؛ إلا سلط عليهم عدوًا من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم يَحْكمْ أئمَّتُهم بما أنزَلَ اللهُ وتَخيَّروا فيما أنزَلَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ؛ إلَّا جعَلَ اللهُ بأْسَهم بينهم).
كما أن إصلاح الرعية أكثر سلامًا لاستقرار الأمة، فقد جاء أعرابي إلى أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، وسأله: لما كثرت الفتن في عهدك ولم تكن كذلك في عهد أبي بكر وعمر؟
فقال عليه السلام: (لأنهم كان أمراء على مثلي، وأنا أمير على مثلك).
فالرعية غير الصالحة وغير الواعية وغير المتعلمة تكون نكبة على أوطانها، وتحضرني هنا نصيحة الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة للزعيم الليبي الشهيد معمر القذافي عندما سأله: لِمَ لا تعلم شعبك؟، فقال: إذا تعلموا سيعزلوني، فرد بورقيبة: لو تعلموا سيعزلوك ويحاكموك، لكن إن لم يتعلموا سيعزلوك ويقتلوك.
لكن القذافي رحمه الله لم يعمل بنصيحة بورقيبة.
============
منهج إصلاح الرعية
============
إذا كان إمام أهل البيت في قمة السلطة السياسية، صار في طريق إصلاح الرعية وممثلي الراعي – وزراء وولاة ومسؤولين -، لذلك عندما تولى الإمام علي عليه السلام الخلافة قال: (.. فَلَيْسَتْ تَصْلُحُ اَلرَّعِيَّةُ إِلَّا بِصَلَاحِ اَلْوُلَاةِ، وَلَا تَصْلُحُ اَلْوُلَاةُ إِلَّا بِاسْتِقَامَةِ اَلرَّعِيَّةِ).
لكن إن كان إمام أهل البيت لا يحكم الأمة، فإنه يركز اهتمامه على إصلاح الرعية؛ حتى يخرج منها راعٍ صالح، فهو يتولى إصلاح الرعية، ويترك إصلاح الراعي أو الانتقام منه واستبداله – إن أصر على الفساد- على الله عز وجل، وإن كان لا يمنع أن يحاول إصلاحه ونصيحته متى استطاع، لكنه يركز أكبر تركيزه على الرعية.
وقد تنوعت أساليب أئمة أهل البيت في الإصلاح وهم خارج السلطة، كما يلي:
– الإمام الحسن عليه السلام وجد الأمة مصابة بمرض الشك في القيادة، فآثر الصلح؛ لكي يتفرغ لإصلاح الرعية من أسفل الهرم الاجتماعي، وقد وصف جده صلى الله عليه وآله وسلم صلحه على الخلافة بأنه إصلاح، قال: (إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين(.
– الإمام الحسين عليه السلام وجد الأمة فاقدة الإرادة، وحتى إن رغبت في الإصلاح لن تقوم به، فآثر رضوان الله الأكبر عليه أن يقوم بنهضته ومعه خُلَّص أتباعه وأهله من أجل خلق صدمة عظمى في الأمة تدفعها للإصلاح والتغيير، وقد لخص نهضته بقوله: (.. إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم).
– من بعدهما بدأ أئمة أهل البيت في وضع قواعد إصلاح الرعية واحدًا تلو الآخر؛ حتى تبلورت الخطة الإصلاحية لأئمة أهل البيت في محورين رئيسين:
==============
1- بناء جماعة صالحة:
==============
تكون مثل (النمرقة الوسطى يرجع إليهم الغالي، ويلحق بهم التالي)، كما وصفها الإمامان علي بن أبي طالب ومحمد الباقر ، ومثل (البلُّورة المركزة التي تجتمع عليها الأمة) كما وصفتها بلغة عصرية.
==================
2- إصلاح انحرافات المجتمع كله:
==================
وهو مرحلة تالية يستطيع الإمام أن يبدأ فيها بمجرد أن يكوِّن جماعة صالحة ولو صغيرة، لكي يعينوه على تصديره علوم أهل البيت وصورة أخلاقهم للأمة.
لذلك قال خاتم الورَّاث المحمديين الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم رضي الله عنه: (يتعين على فقراء هذا الطريق أن يكون كل رجل منهم متعلمًا ممن فوقه في العلم، ومعلمًا لغيره، فإن من فهم مسألة من العلم صار عالمًا بها)، أي أن أعضاء الجماعة الصالحة لا بد أن يستقوا العلم والفهم والخلق من إمام وقتهم، وعندما يصبحون على الصورة التي ترضي إمامهم، وجب عليهم أن يقوموا بهذا الدور مع غيرهم من المسلمين.
لكن إصلاح الرعية لا يتم بصورة عشوائية وبدون تخطيط، وإنما وفق خطوات وضوابط وضعها أئمة أهل البيت للأمة.
لقد أوضح الإمام أبو العزائم أولى هذه الخطوات في دستور فقراء آل العزائم، فقال بأن المتعين على كل رجل من آل العزائم:
1- أن يبدأ بنفسه؛ حتى تسلم تسليمًا حقًّا لله تعالى في حكمه الشرعى وحكمه القدري.
2- أن يدعو والديه وأهله وأولاده بالحكمة والموعظة الحسنة، فإن ذلك واجب عليه كما يجب عليه السعى في معاشهم.
3- أن يدعو جيرانه وعشراءه إلى الحق بالحكمة واللين، والدعوة بالعمل فوق الدعوة بالقول.
وأضيف أنه: بعد أن يكون الرجل من آل العزائم على الصورة التي يريدها إمام وقته، ودعا أهله وجيرانه ومحيطه، فعليه:
4- أن يبدأ في توحيد أبناء الطرق الصوفية، ليكونوا نواة لإصلاح المجتمع المحلي.
5- أن يعمل أبناء الطرق الصوفية جميعًا على إحياء الأخلاق في بلدهم، وبث النهضة في أبنائها.
6- أن يكون أبناء هذا البلد الذي تم إصلاحه نواة لإصلاح الأمة الإسلامية جميعًا.
وفي هذه المقالات نبين كيف يكون التغيير على المستوى الفردي، والأسري، والمحيطي، والصوفي، والوطني، والأممي.
تابع: وقفة مع الذات | كيف نتغير ؟ لـ شيخ الطريقة العزمية السيد علاء أبو العزائم
================
أولاً: التغيير على المستوى الفردي
================
أولى خطوات تغيير الأمة هي تغيير النفس، فتغيير النفس هو محور الإصلاح الكوني.
يقول الله عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) (الرعد: 11)، وقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من طلب نصيحته بقوله: (أبدأ بنفسك).
والبدء بالنفس أمر بالغ الأهمية؛ لأن من يبدأ بنفسه يكون صادقًا في التغيير، ويحوز رضا الله عز وجل ولا يدخل تحت من قال الله عنهم: (كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) (الصف: 3)، ويكون مصدقًا عند غيره، فإنك إن تحدثت مع غيرك عن خلق بعينه، وهم يرونه فيك فسيسمعون لك، لكن إن تحدثت عن خلق ليس فيك فلن يقبل الناس كلامك؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه.
==========
كيف يتغير الفرد؟
==========
1 – مكاشفة الذات:
==========
أول خطوة في التغيير هي الجلوس جلسة صفاء لمصارحة ومكاشفة الذات، وفيها يسأل الفرد نفسه – بعد أن يقرأ رسالة الضمير-:
– هل أنا مسلم بحق؟.
– هل لدي عقيدة حقة في الله، وفي رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وفي وارثه في هذ العصر؟
– هل أحصل على ثمرة العبادات؟ أم أؤدي العبادة تأدية العادة؟
– هل أخلاقي هي أخلاق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل البعثة؟ أم أخلاق الإسلام؟ أم أسير على مكارم الأخلاق؟
– هل معاملاتي مع الله ونفسي، والمسيء والأهل، والمسلمين والأعداء والأصدقاء، تسير وفق الشريعة الإسلامية أم لا؟
الإجابة على هذه الأسئلة ضرورية جدًّا للثورة على النفس، وتغييرها، فهي تحدد للفرد مواطن الخلل في شخصيته وإيمانه، وترشده لأن يبدأ في تغييرها.
وأول خطوات التغيير هي ضبط بوصلة العقيدة في الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم والوارث المحمدي بالصورة التي قدمتها في رسالة (الضمير).
==============
2 – النية ووضع الهدف:
==============
يجب أن يضع الفرد هدفًا أمامه وهو أن يكون الصورة المثلى للإسلام كما أراده الله، وأن يكون شخصًا يفرح به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويتباهى به أمام الأمم، وأن يسرَّ إمامه، ويعقد النية على التغيير ويسأل الله أن يوفقه في ذلك ويعينه.
كما أن عليه أن يتوقع في أي وقت أن يسأله إمام وقته عن مواطن الخلل في شخصيته وأخلاقه وإيمانه، ويعقد العزيمة أنه لن يكذب في إجابته أبدًا، فإن فعل ذلك فإنه سيتغير، كما تغير السارق الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فعندما طلب نصيحة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قال له: (لا تكذب)، فتوقف عن السرقة لا لشيء إلا لأنه خشى أن يسأله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن السرقة، ولا يستطيع أن يكذب عليه، فتغير؛ لأنه تخيل أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد يسأله في أي وقت وهو لا يستطيع الكذب عليه.
وأي فرد يوالي إمامًا من أئمة أهل البيت، لا بد أن يكون لديه نفس العزيمة على عدم الكذب على إمامه، وأن يجعل التغيير هدفه؛ حتى إذا ما سأله إمامه يصدقه القول.
==============
3 – التخلص من الأصنام:
==============
لا أقصد هنا أن هناك من يعبد غير الله عز وجل، ولكن أقصد من أصبح عبدًا لعادة أو معصية أو فتنة أو فعل يغضب الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وإمامه.
فمن يحب المال هو عبد للمال، ومن يحب النساء هو عبد للنساء، ومن يحب المخدرات أو الخمور هو عبد لهذه الموبقات لا يستطيع أن يتخلى عنها.
كذلك من داوم على معصية كالزنا والسرقة والقتل وغيرها هو عبد للمعاصي والشهوات، ومن داوم على التدخين رغم علمه بمضاره وتحذير إمامه منه فهو عبد له.
ويدخل في ذلك من يذهب إلى أماكن المعصية واللهو فيضيع فيها وقته، ومن يشاهد الأفلام الإباحية أو يمارس الفواحش الظاهرة أو الباطنة، ومن يتخذ قدوة فاسدة من اللاهين واللاعبين، أو من فُتن في طريقه إلى الله، أو سار خلف مفتون سمم عقيدته.
إن أردت التغيير، فتخلص فورًا من هذه الأصنام التي جعلتك عبدًا لها، وعبدًا لمن يتحكم فيها، واعلم أن المتحكمين في الشهوات والملذات هم اليهود أعدى أعداء الأمة، والمتحكمين في فتن الطريق هم شياطين الإنس والجن، فلا توالي عدوك بمداومتك على عادة أو فتنة تجعلك عبدًا له، وأنا أريدك أن تكون عبدًا لله فقط.
ومن الخطوات المهمة في التخلص من هذه الأصنام والفتن، أن يعقد المفتون أو العاصي النية على التغيير الفردي إذا كانت فتنه أو معاصيه فردية، ويعقد النية جماعة إذا كان يمارسها مع أقرانه، وهي سنة أمر بها الإمام أبو العزائم.
فإن كنت تعصى الله مع أصدقاء لك أو كنتم واقعين في فتنة جماعية، فاتفق معهم على عقد النية جماعة على التخلص منها.
ومن أصر على البقاء فيها، فأميته بإماتة النظر إليه أو السماع له، وكأنه ليس موجودًا في حياتك، فإنه إن ظل على علاقة بك ما تركك تتغير أبدًا، وإن أظهر لك خلاف ما يبطن، فلا تنخدع يا بني بالثعلب إذا ما جاء في ثياب الواعظين.
تابع: وقفة مع الذات | كيف نتغير ؟ لـ شيخ الطريقة العزمية السيد علاء أبو العزائم
===========
4 – الجدول الزمني:
===========
عند أهل الدنيا وأساتذة التنمية البشرية والتخطيط لا بد من وضع جدول زمني للتخلص من الأصنام والتغيير، لكن عند أهل التسليم لا توجد جداول زمنية.
ألم ترَ أن صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قاموا فأراقوا زجاجات الخمر بمجرد أن أبلغهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بتحريمها؟، ألم ترَ مؤمنًا قذف التمرات من فمه بمجرد أن سمع المنادي ينادي للجهاد في غزوة بدر الكبرى؟.
أهل التسليم لا يضعون جداول زمنية للتغيير، ولا ينفذون خططًا متدرجة يتخلون فيها عن الموبقات بتقليل الجرعة، وإنما يسلمون أمرهم لقائمهم بمجرد أن يصدر أمره إليهم، فيتطهرون فورًا دون حول منهم ولا قوة، وإن نازعتهم أنفسهم على المعاصي، ذكروها بأوامر القائم، فظلوا مستقيمين.
ومن لم يستطع فعل ذلك بمفرده، فليذهب لقائمه وليكن بين يديه كالميت حتى يحيا، كما قال الإمام أبو العزائم، وسيحييه القائم بإذن الله وينقيه من شوائب المعاصي ويجعله يكرهها؛ لأنه الأدرى بمعالجة أمراض النفوس، تمامًا كما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع الشاب الذي جاءه يطلب الإذن بالزنا، فلما حاوره صلى الله عليه وآله وسلم ووضع يده على صدره، وقال: (اللهمَّ طهِّرْ قلبَه، واغفر ذنبَه، وحصِّنْ فَرْجَه)، فلم يكن شيءٌ أبغضَ إليه من الزنا بعد ذلك.
وكما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حين قال له: يا رسول الله، واللهِ لأنتَ أحبّ إلىَّ من كل شيءٍ إلا من نفسي. فقال له النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: (لا والذي نفسي بيده؛ حتى أكون أحب إليكَ من نفسك)، فأمسك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيديه، فقال له عمر: (فإنه الآن واللهِ لأنتَ أحب إلىَّ من نفسي)، فقال له النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: (الآن يا عُمر).
فالآن.. الآن.. ليس هناك وقت لنضيِّعه في جداول زمنية، فمن نوى التغيير فليريق معاصيه على الأرض فورًا، وليخرج حبه للشهوات من قلبه فيطرحه أرضًا.
===========
5 – اللحاق بما فات:
===========
إن كان من أراد التغيير مقصرًا في الطاعات والعبادات فعليه أن يقوم من جلسة قرار التغيير ليصلي فرض الصلاة الذي في وقته، ويداوم على الصلاة والصيام والزكاة وجميع فروض الله في وقتها، وأن يتدرج في السنن؛ حتى يكون على الصورة التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
هناك من يرون ضرورة أداء العبادات الفائتة، وهذا أمر واجب على كل من استطاع إليه سبيلًا، أما من كبر سنه أو ضعف جسمه، أو صرعته الأمراض والأوجاع، فالأولى له أن يؤدي الأخلاق الفائتة عن الصلوات الفائتة، فإن لم يكن لك وقت أو قدرة لأداء العبادات بسبب العوامل التي ذكرتها، فلا تفوتك ثمرتها.
أما القادر فعليه القضاء متى استطاع، مع أداء الأخلاق الفائتة في نفس الوقت.
وأول الأخلاق التي يجب أن يتخلق بها السالك فورًا هي: الصدق والأمانة، فإنهما أخلاق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل البعثة، ولا يكون المسلم مسلمًا إلا إذا كان متصفًا بهما، ثم عليه أن يتخلق بأخلاق الإسلام، ويجعل هدفه الوصول لمكارم الأخلاق.
وعلى السالك أن يقرأ الكتب والمقالات التي أملاها أو كتبها إمامه؛ ليلحق ما فاته من المنهج، ويكون في نفس مستوى إخوانه.
وفي حالتنا فإن من فاته قراءة كتب مراحل: تمسك المسلم بإسلامه تمسكًا يقينيًّا، وتحصين المسلم من فتن الأعداء الداخليين، وتحصين المسلم من فتن الأعداء الخارجيين، عليه أن يقرأها؛ حتى يلحق ما فاته، ويسير معي بعد ذلك خطوة خطوة.
=========
6- اتخاذ قدوة:
=========
لن يستطيع من نوى التغيير المداومة، إن لم تكن له قدوة تضبط بوصلته إذا ما انحرفت، والقدوة الواجبة على كل فرد في الأمة هي إمام الوقت، فإنه أدرى بأمراض النفوس في وقته وبواجب الوقت، وهو يرشد السالك لما فيه الخير له ولأمته.
وقد قدمت للأمة جميع أنواع القدوة؛ حتى لا يجد أحد صعوبة في الاقتداء: حيث قمنا بتدريس السيرة النبوية وسيرة أهل البيت، ثم طباعتهما في مؤلفي (السيرة النبوية لأبي العزائم)، و(موسوعة سيرة أهل البيت)، لتقديم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة أهل البيت كأسوة وقدوة صالحة للأمة.
وأصدرنا كتاب (الصلاة والسلام على والدي خير الأنام)، لإظهار أبوي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم كقدوة بعد دفع شبه الوهابيين عنهما، وكتاب (القول الصائب في إسلام أبي طالب) لرد شبهات الأمويين عنه، وكذلك كتاب (أم الأنوار فاطمة الزهراء) لتقديم السيدة الزهراء قدوة لنساء الأمة.
ثم سننت الاحتفال بموالد أصحاب العباءة: (الإمام علي والسيدة الزهراء والإمام الحسن والإمام الحسين عليهم السلام)، بجانب السيدة آمنة بنت وهب عليها السلام والدة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم – وهو أول احتفال في تاريخ الإسلام- ومولد السيدة زينب الكبرى عليها السلام، ومولد سماحة السيد عز الدين ماضي أبي العزائم، ليبقى ذكرهم حاضرًا معكم دومًا.
وأصدرت كتب (خاتم الوُرَّاث المحمديين)، و(صِدِّيق الدعوة العزمية)، و(عملاق الدعوة العزمية)، لتقديم الإمام أبي العزائم وخلفائه كقدوة لآل العزائم والأمة.
كما قدمت عددًا من القدوات القريبة من الناس في كتابي (نماذج القدوة الحسنة)، قدوات ليسوا أئمة وليسوا أنبياء، لكي يدرك الناس أن الوصول للقدوة ليس أمرًا صعبًا.
تابع: وقفة مع الذات | كيف نتغير ؟ لـ شيخ الطريقة العزمية السيد علاء أبو العزائم
============
7 – تفتيح العقل والقلب:
============
بعد أن يكون السالك قد تطهر من رجس المعاصي وخطا خطوات ثابتة على طريق الاستقامة واقتدى بإمام وقته، أو من رضي عنهم إمام وقته، وجب عليه أن يفتح عقله وقلبه لتلقي العلم الوافر والحال النافع.
أما تفتيح العقل، فيكون بالالتزام بالمنهج الصوفي؛ وهو كما عرضه الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبي العزائم: (هو علم الباطن، وهو علم يعرف منه أحوال النفس فى الخير والشر، وكيفية تنقيتها من عيوبها وآفاتها، وتطهرها من الصفات المذمومة، والرذائل والنجاسات المعنوية التى ورد الشرع باجتنابها، والاتصاف بالصفات المحمودة، وهى الصفات التى طلب الشرع تحصيلها، وكيفية السلوك والسير إلى الله تعالى والفرار إليه).
وقد أصدر الإمام أبو العزائم وخلفاؤه العديد من الكتب عن التصوف دورًا وحالًا وسلوكًا ومنهجًا، وكذلك ردوا شبهات أعداء التصوف والمشككين في المنهج الصوفي، وجب قراءتها.
أما تفتيح القلب، فلا يكون إلا بالتسليم المطلق للمرشد القائم، وكل سالك مأمور أن يكون بكله للإمام القائم، كما قال الإمام أبو العزائم: (لا تكن بكلك إلا لنبي، أو وارث نبي).
ومن كان بكله لإمامه القائم، ساعده الإمام في إزالة السواد الذي راكمته الفتن والمعاصي على قلبه؛ حتى يصفى قلبه ويكون مستعدًا لتلقي النور والسرور من قائمه، فإن النور يسري من قلب إلى قلب، ولا يتلقاه القلب إلا إذا كان صافيًا.
===============
8 – الوجود في قلب المرشد:
===============
أغلب السالكين يحبون المرشد، والمرشد يحب السالكين المفردين القصد في طريق الله حبًّا عامًّا؛ لأنهم أبناؤه الروحيين، لكن على السالك أن يحرص على أن يكون له حيز خاص ومنزلة متفردة في قلب مرشده، وذلك لأن الله ينظر إلى رجال في قلوب رجال، فيرضى عنهم لوجودهم فيها، كما أخبرنا الإمام أبو العزائم.
فعلى السالك أن يحرص على أن يكون في قلب إمامه، ولا يكون ذلك إلا بالالتزام بمنهجه وأوامره سيرًا وسلوكًا، والتخلق بأخلاقه، والتأدب بآدابه.
والوجود في قلب المرشد لا يكون بالأقوال، وإنما بالإخلاص في التغيير، والإخلاص في الأعمال، والإخلاص في السير في طريق الله، والإخلاص في حب الدعوة وصاحبها والقائم مقامه، والإخلاص في تنفيذ أوامر المرشد، والإخلاص في العمل لرفعة الدعوة.
وإذا ما أصبح السالك في قلب مرشده، فإنه يخبره بذلك ويعامله بهذه المنزلة، وهي سنة الإمام أبي العزائم، حيث كان يخبر خلص رجاله بأنهم في قلبه، ويخبرهم بمنازلهم ومقاماتهم في قلبه، وهو سر دعاء الأتباع المخلصين دومًا: (اللهم اجعلنا في قلب الإمام القائم)؛ لأنهم يدركون قيمة هذه المنزلة.
==========
9 – ظهور النور:
==========
أمرنا المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم أن نبدأ بمن نعول، لذلك فإن أولى الناس بدعوتهم للتغيير هم أهل السالك.
ولا يستطيع هذا السالك التغيير في أهله، إلا إذا تحول من شخصٍ عاصٍ مضطربٍ في سلوكه مفتونًا في دينه مشغولًا بدنياه، إلى شخص آخر قدوة يسرهم وجوده، ويرون فيه أثر الصلاح.
ولا يكون السالك على هذه الصورة، إلا إذا رضي عنه إمامه، فإن الرضا يمثل إجازة للسالك بأن تغييره قد قُبل، وبأنه أصبح مؤهلًا لأن يهدي غيره.
في المقال المقبل سنبين كيف يهدي الشخص المصلح أهله وأقرباءه.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.