ما وقع للسمان في الخريف ؟! | بقلم د. عاطف معتمد
السمان والخريف بين الوفدية والعدمية
لو أن رواية “السمان والخريف” التي كتبها نجيب محفوظ في 1962 كانت مجردة من الخلفية السياسية والتاريخية لكان مصيرها الانضمام إلى آلاف الروايات العادية التي عالجت مسألة حياة رجل مشرد بلا استقرار أسري.
يتعرض كثير من الرجال لأزمات اجتماعية مزلزلة تلقي بهم في متاهة الضياع والتشرد ومعاقرة الخمر والتنقل من متعة آثمة لأخرى فتتحطم حياتهم ويموتون في صمت لا يستحق التقدير.
وهذه الاضطرابات وحالة الضياع والتشرد والعدمية تملأ مئات القصص في حياتنا كل يوم. لكن الذي ضمن لرواية “السمان والخريف” الخلود هو ربطها بحدث تاريخي وسياسي ملحمي في حياة مصر منتصف القرن العشرين.
تبدأ الرواية بحريق القاهرة في 26 يناير 1952، في اليوم التالي لقيام الإنجليز بمذبحة ضباط البوليس المصري في 25 يناير في الإسماعيلية.
بطل روايتنا نجم صاعد في الصف الثاني للحزب الحاكم. لا يخبرنا محفوظ باسم هذا الحزب إلا بعد 20 صفحة من الرواية فنقرأ أسماء “الوفد”، “الأحرار الدستوريين” وغيرهم، كما نتعرف على بعض الرجال المحيطيين بالملك والعاملين في السراي.
بطل روايتنا شاب طموح مارس السياسة وكان مخلصا للوفد ولقي جراء إخلاصه الاعتقال مرات عديدة حتى صار من القيادات الواعدة فشغل منصب مدير مكتب الوزير.
حريق القاهرة كان النار التي اشتعلت في بنيان حزب الوفد فسقط الحزب وبعد أشهر قليلة في يوليو من نفس العام قام الجيش بالاستيلاء على الحكم فيما سيعرف اصطلاحا باسم “ثورة يوليو”.
يجرى النظام الجديد عمليات تطهير في الوزارات ويطرد بطل روايتنا من منصبه فيبدأ رحلة البحث عن نفسه في حالة اغتراب وتكسر وتشرد مترقبا ومؤملا أن تفشل الثورة ويسقط حكم الضباط.
لو كان محفوظ قد أبقى على الصفات الوطنية والانتماء لحزب الوفد والكفاح السياسي لكانت الرواية تعاطفا مع الوفد وقدحا في الثورة. ولهذا لجأ محفوظ إلى مخرج مقنع بأن جعل طرد بطل روايتنا في عملية التطهير ليس لتعسف أو ظلم بل بعد إدانة بتهم تلقي رشى في منصبه لتسهيل حصول بعض الموظفين على وظائف دون غيرهم.
ورغم تلوث بطل روايتنا بالرشوة إلا أن الرواية لا تجعلك تكرهه أو تنفر منه، بل إنك تتابعه وتتعقب تشرده وتحطمه بقدر كبير من الاهتمام والقلق والشغف، لا سيما أن بقية أبطال الرواية ليسوا منزهين عن الخطأ،
يغادر بطل روايتنا القاهرة بحثا عن راحة نفسية في الإسكندرية فيصل إليها في الخريف، ومن شرفة الشقة التي استأجرها في الطابق الثامن في الإبراهيمية يشاهد طيور السمان التي تلقى حتفها وتقع في الشباك بعد رحلة طويلة وراء أوهام الارتحال والكفاح.
جاء ذكر السمان والخريف في سطر واحد في الرواية، لكنه سطر كاشف يكاد يقول إن رحلة بطل روايتنا مشابهة تماما، فهي سعي طموح للمستقبل وطيران بكل قوة ثم في النهاية وقوع مفاجئ في شبكة صيد ساذجة منتصبة على شاطئ البحر.
الشقة التي استأجرها بطل روايتنا في الإسكندرية لعائلة يونانية، يتطلع بطلنا إلى صور العائلة الأجنبية ويشعر – في غربته وتشرده –أن هؤلاء الأجانب أحب إليه من بني وطنه، يشعر بأن ما يجمعه معهم هو الغربة وعدم الامتزاج في هذا البلد.
يتمنى بطلنا الهجرة إلى أي جالية مصرية في الخارج، ولكنه يتحسر لأن المصريين – الشعب الوحيد في العالم – الذي ليس له جاليات في الخارج يمكن الانضمام إليهم. يقول محفوظ هنا تعبيرا عبقريا وكأنه يعطيك خلاصة كتاب كامل في جغرافية السكان حين يغمغم بطل روايتنا: “المصريون زواحف لا طيور”.
تمضي الأحداث ببطل روايتنا من أزمة لأخرى، يعيش صراعا مريرا، يتابع هجوم إسرائيل واحتلال سيناء ويتمزق بين رغبته في أن يسقط النظام الذي أطاح به وبحزبه وبين وطنيته المخلصة لبلده، ولا يجد سبيلا إلا في حياة العبث ليلا والتسكع والتشرد نهارا.
وبدلا من أن يموت بطل روايتنا أو ينتحر يمد له محفوظ خيطا من الأمل – على طريقة تشيخوف في بعض أعماله – بإعادة ترميم الماضي وإن كان بصورة غامضة غير مضمونة لا نعرف إن كانت ستصادف نجاحا أم فشلا.
ويبدو أن نجيب محفوظ كان براغماتيا في عملية تحويل رواياته إلى أفلام، فالفيلم الذي أنتج من هذه الرواية في عام 1967يخل كثيرا بمضمون وفلسفة العمل الأصلي.
“السمان والخريف” رواية تصلح لتفسير أحداث يناير 1952وما تلاها من تحولات جذرية، وفي ظني أنها تصلح أيضا للتأمل والتفسير في التحولات السياسية والاجتماعية في التاريخ المصري المعاصر.