القاهرة 30 بين عدمية نجيب محفوظ ورمزية صلاح أبو سيف
حول صلاح أبو سيف الرواية لسيناريو بعد نشرها بحوالي 18 عاما، وهنا نكتشف أن تفاعلات وشخصيات نجيب محفوظ مستمرة لعصورة عديدة وصالحة للتقديم حتى بعد قيام ثورة غيرت من شكل البلاد كثيرا، ولن أكون مغاليا إن قلت أن أحداث وشخصيات الرواية صالحة حتى هذه الألفية، ومع ذلك أضاف أبو سيف لمساته التي بعضها جاء مميزا وبعضها لم يضف شيئا.
قدم أبو سيف الفيلم باعتباره حكاية من زمن فائت ولذلك غير اسم الرواية من القاهرة الجديد ل القاهرة 30، وهذا مقبول دراميا لكن حذف بعض الشخصيات من شخصيات الرواية في الفيلم جاء بخلل في التوازن الدرامي بين الشخصيات، شخصية ” علي طه” الثوري المطالب بتغييرات سياسية تكاد تكون مستحيلة، كان في مقابلها في الرواية شخصية “مأمون رضوان” ولم نره في الفيلم، في الرواية كان يؤمن رضوان بنفس أفكار على طه لكن سبيل التنفيذ كان مختلفا تماما، ومن هنا تأتي المقابلة في الشخصيات، صور أبو سيف شخصية على طه أنها المقابلة لشخصية بطل الفيلم “محجوب عبد الدايم“، ولن في الرواية كانت تقابلها شخصية “أحمد بدير” التي قدمها عبد المنعم إبراهيم، شخصية وصولية لا تمانع التنازل عن أي شيء لكن بطريقة غير صريحة لا تمس مظهره أمام المجتمع، عكس عبد الدايم الذي قرر أن يكون وقحا فجا ويواجه المجتمع بفجاجته دون أي إحراج، لدرجة إنه يطلب من زوجته صراحة أن تجهز نفسها لرفيقها الوزير قبل مجيئه بساعات لمجرد أنها وعدته بمنصب “سكرتير الوزير”، حذف بعض الشخصيات لم يكن في صالح الفيلم فنيا.
تدور أحداث الفيلم في ثلاثينات القرن العشرين حيث يعيش الشاب محجوب عبد الدايم (حمدي أحمد) الوافد من الصعيد حياة فقيرة في القاهرة، ويتعرف على ابن قريته (سالم الإخشيدي) الذي يطلب منه أن يساعده على الحصول على وظيفة، فيعرض عليه وظيفة مقابل أن يتزوج من إحسان (سعاد حسني)، عشيقة قاسم بك (أحمد مظهر)، على أن يزورها قاسم بك مرة كل أسبوع على علم منه مقابل امتيازات الوظيفة، الرواية تعرضت بشكل أكثر للحالات الإنسانية والصراعات النفسية داخل الشخصيات، أما السيناريو بجانب اهتمامه بتقديم التناقضات الكبيرة، اهتم بخطوط سياسية منها خط عن دستور 23 وإلغاؤه، ودستور 30، وصدقي باشا، والبرلمان، وهجوم على أرستقراطية ما قبل 23 يوليو، والعلاقة بين الإنجليز وسرايا الملك، اعتقد أن ذلك لم يضف لدراما الفيلم عكس الرواية.
الصراع الحقيقي داخل السيناريو كان نفسيا، محاولات محجوب عبد الدايم الدائمة للارتقاء بمستواه المادي والوظيفي حتى على حساب كرامته وعرضه، الصراع النفسي داخل شخصية ” إحسان ” التي جسدتها سعاد حسني، ما بين حبها وبين مسؤوليتها تجاه أسرتها الفقيرة التي لا تمانع في بيع جسد ابنتهم الشهي لمن يدفع، حاولا محفوظ وأبوسيف عرض حالات مختلفة وإثبات أن تعريف كلمة الشرف نسبي ومتغير من شخص لآخر وأن الفقر قد يكون هو المبرر الأول لارتكاب كل ما هو محرم، ثم يأتي في المرتبة الثانية الصراعات السياسية وكشف زوجة الوزير لخيانته مع “إحسان ” زوجة محجوب عبد الدايم، كلها صراعات محركة للأحداث وتجعلها تتطور لكشف وتعرية أبطال الحكاية أكثرفأكثر.
فن الحوار في الفيلم كان له دورا كبيرا في نجاحه، مثلا مشهد في بداية الفيلم يقول أحد الفلاحين لمحجوب عبد الدايم “حاسب الوحل يا محجوب أفندي” ليقول عبد الدايم في سره “ما اتوحلنا واللي كان كان، البقف الطويل العريض دا يسكن وياكل ويشرب 30 يوم بجنيه واحد” وهنا يعرض صلاح أبو سيف بعض من ملامح شخصية محجوب الناقمة غير الراضية، وبعدها بمشهد يرى محجوب أحد جيرانه “سالم الإخشيدي” بعد ما أصبح في منصب كبير لتجده يقدم نفسه له بكل ود ويقول ” والله تستحق أعلز الدرجات يا سالم بيه وهو يتحدث لنفسه قائلا:
“بقى ابن سليمة العجانة يبقى درجة خامسة حكومة ودرجة أولى قطر وأنا درجة جنيه واحد في الشهر ودرجة تالتة قطر”.
ومن أهم مشاهد الفيلم مشهد إبلاغ قاسم بيه عشيقته إحسان بتوليه منصب وزيرا، عندما قال لها والدها” حلو حلو، بقينا قرايب الوزير”، أب سعيد جدا بتولي عشيق ابنته الوزارة ويعتبر تلك العلاقة الشاذة قرابة، وعندما قال لها محجوب ” ياريتنا فضلنا وكلا وبس.. وكالة الوزراة أضمن واثبت ” وهو مبدأ منتشر حتى الآن في مصر، أن منصب الوزير غير مضمون عكس المناصب الإدارية الأخرى، ليرد عليه والدها في نفس المشهد ” يا أخي دا بدل ما تفرح إن مراتك بقت.. بقت في الوزارة”، وهنا قرر الزوج مباركة المنصب ولكن في حالة إقناع إحسان لقاسم بيه بترقيته درجتين وظيفيتين، عرض صلاح أبو سيف من خلال الحوار مدى فجاجة الأب والزوج الذين يتعاملان مع ترقية العشيق على أنه فرصة يتقاسمونها في ما بينهم.
يطلق على المخرج “صلاح أبو سيف” رائد المدرسة الواقعية في الإخراج، وأرى أنه لقب مستحق تماما لمخرج كبير، أفلام صلاح أبو سيف مليئة بالرموز والصور الحية من الواقع، تستطيع بكل وضوع في المشاهد الأولى في فيلم القاهرة 30 أن تشتم رائحة القرية وترى أفراد القرية على الشاشة كما هم في الحقيقة، طول الفيلم يدفع أبطاله نحو مصيرهم الذي قد يبدو مختلفا إلا أنه في الحقيقة نفس المصير في النهاية، النهاية التي تؤكد أن هناك ألف محجوب عبد الدايم وألف إحسان في المجتمع.
من أقوى المشاهد التي قدمها أبو سيف في الفيلم هو مشهد كتب الكتاب، والذي تظهر فيه الصورة الشهيرة لمحجوب عبد الدايم وفي الخلفية “قرون ثور”، وهو رمز قدمه صلاح أبو سيف كتوقيع لتلك الشخصية وبداية دخول لعالم القوادين والذين يعيشون على حساب كرامتهم وشرفهم، وطرح الرموز هي الهواية المفضلة للمخرج صلاح أبو سيف قدمها في الزوجة التانية وشباب إمرأة والفتوة القاهرة 30 وغيرها من الأفلام.
اعتبر دور محجوب عبد الدايم هو دور عمر الممثل “حمدي أحمد”، أهم دور قدمه في تاريخه منذ بدايته الفنية وحتى الآن، قدم شخصية الشاب الفقير الوصولي الذي يبحث عن مصلحته بأي شكل، استطاع بنبرة صوته وتعبيرات وجهه نقل الصراع النفسي الذي يدور داخل الشخصية للجمهور، خصوصا في آخر مشهد له في الفيلم عندما ينكشف أمره لأبيه فيثور في وجهه لانتهاء حلمه في المنصب والأموال بدلا من اعترافه بخطئه وندمه عليه أمام والده، شخصية مقتنعة اقتناع تام بإن الطريق الشرعي للوصول لأي منصب هو التدليس والقوادة وبيع الشرف، تجسيد الممثل حمدي أحمد لهذا الدور في بدايته يثبت لنا أنه تعرض للظلم طوال تاريخه ولم يسند إليه دور يظهر حجم موهبته الكبيرة.
سعاد حسني كانت الأنسب لدور إحسان، الفتاة التي منحها الله جمالا فطريا تاجرت به واعتبرته رأس مالها للوصول لما تريد، الفتاة التي تلمح في نبرة صوتها وعيناها انكسار واضح رغم تغير حالها وحصولها على ما تريد، وبالطبع توفيق الدقن قدم دور أبيها الذي يستفيد بإبنته بشكل متقن، وأضاف له حس كوميدي يخفف من مساويء طباع الشخصية، مساحة دور الوزير قاسم بيه والذي جسده الممثل أحمد مظهر لم تكن كبيرة على الرغم من تأثير الشخصية في كل الأحداث، اعتقد أن ذلك كان مقصودا لإعطاء صورة عن الشخصية وكأنها محركة لباقي الشخصيات كأنهم عرائيس ماريونيت، تلعب بهم وتحركهم كما شائت لكنها لا تظهر كثير مثلها مثل محرك العرائس.
رغم الاختلافات بين الرواية والفيلم، ورغم أن الفيلم قدمه صلاح أبو سيف من وجهة نظر بعد الاستعانة بنص نجيب محفوظ الرائع، إلا أن الفيلم أضاف للرواية إحياء وتجديد وتخليد في تاريخ مصر السينمائي.