إني أحب محمدا ..صلوا عليه وسلموا !
بقلم د.عاطف معتمد
في عام 2010 كنت أجول في شوارع مدينة “ساو باولو” في البرازيل. السير على الأقدام لأطول فترة ممكنة يتيح فرصة التعرف على ما لا تقوله الخرائط وكتب الأدلة السياحية.
طال بي التسكع في “ساو باولو” حتى وجدت نفسي في شارع جانبي تنطلق من أحد بناياته حفلة موسيقية بأنغام راقصة.
لم أكذب الخبر، انطلقت إلى مصدر الصوت عند سلم ينتهي إلى طابق سفلي، وبعد بضع عتبات وجدتني في جراج واسع فسيح بأضواء خافتة خال من السيارات وعامر بنحو 500 إنسان واقفين يلوحون بأيديهم ويغنون في حماسة برازيلية تقوم على ثنائية الوفرة الصحية في الجسد والعاطفة القوية في الأداء.
كان الحفل الغنائي مزيجا من رجال ونساء، بدهي أن الملابس هنا خفيفة للغاية بسبب الحر والرطوبة فتكشف عن السيقان والأذرع والنهود السمراء والبيضاء. ومع حماسة الغناء كان المشهد كله ساخنا وعامرا بالعرق.
بعد دقيقة أو اثنتين اكتشفت أنني في حفل ديني أو بالأحرى صلوات وإنشاد ديني ضمن الثورة التي أدخلتها بعض المذاهب الدينية الحديثة في المسيحية لاستقطاب الشباب الذين يفرون من ملل الكنيسة وقيودها على الحياة.
البرازيل دولة كاثوليكية في نحو 70 % من سكانها، وهذه الطقوس لا تتفق مع الصلوات التقليدية، هذا يعني أن هذا الحفل تقيمه طائفة وافدة، لعلها تنتمي إلى البروتستانت، المشهور عنهم إحداث ثورات في طقوس الصلاة وإدخال الموسيقى والرقص والغناء، فضلا عن إقامة الصلاة في أي مكان غير رسمي، ليس مهما أن تكون له أبنية وجدران وأيقونات.
حين عدت إلى القاهرة، جمعني بعد بضع سنوات لقاء مع أحد منظمي الحفلات الغنائية في كنيسة قبطية، لأكتشف منه أن الكنيسية القبطية المصرية تعاني من تسلل الطوائف المسيحية الوافدة وتأثيرها على الشباب القبطي بإغراءات الموسيقى والبهجة، وفهمت منه أن بعض “التقدميين ” في النشاط الثقافي الكنسي القبطي قاموا بإحداث تغيرات لمواجهة الموقف، من بينها إدخال الغناء والموسيقى المبهجة ومشاركة جمهور المصليين كما لو كنا في حفل مبهج وليس صلاة جامدة خاشعة.
دارت هذه الذكريات في رأسي ليلة أمس وأنا أشاهد حفلا غنائيا لفرقة إنشاد ديني احتفالا بذكرى المولد النبوي الشريف.
نجلس في قاعة تضم 400 مشاهد من كافة الأعمار ولا سيما من الشباب، والفتيات من بينهم أكثر عددا.
تتألف فرقة الإنشاد الصوفي -أو دعنا نسميها فرقة المدائح النبوية الشريفة – من 20 مداح وعازف، يصنعون معا نصف دائرة مبهجة بألوان خضراء مزركشة وبيضاء ملائكية على النحو التالي:
– أربعة عازفين على الدفوف والطبول من اليمين، في ملابس بيضاء نقية
– عشرة مداحين من أجمل الأصوات العذبة القوية في ملابس خضراء مزركشة مبهجة.
– ثلاثة موسيقيين (عازف على العود، ولاعب على الناي ، و”ضابط” على القانون)، في ملابس بيضاء بهية.
– راقص صوفي على الطريقة المولوية في وسط خشبة المسرح، شغلني كثيرا طيلة العرض، كنت أظنه سيسقط من طول الدوران والوجد والتوحد..لكنه ثبت وقاوم وأبدع طيلة العرض بفواصل من استراحات قليلة. تعلو رأسه عمامة بنية طويلة مائلة، نعرف منها مستويات وصوله إلى حال الوجد الإلهي أثناء الطواف والدوران حول نفسه، ويداه مرفوعتان مبسوطتان إلى السماء يناجي الحبيب الأول والأوحد.
بدأت فرقة المداحين في الإنشاد والعزف فحركت الأشواق في جمهور الحضور وهاجت في نفسي الذكريات.
تعرفت على المداحين في سن مبكرة للغاية من طفولتي، أذكر جيدا أنها كانت تعتمد على ثلاثة أبطال لا رابع لهم: المداح الرئيس، عازف الناي، عازف الربابة.
هذا كلام قديم يعود عمره إلى نحو نصف قرن، الآن…الدنيا تغيرت كثيرا.
في ذكريات الطفولة مع المداحين أتذكر صفين من الرجال يقفون متقابلين يتمايلون يمينا ويسارا مع ذكر الله، يتلاعب بمشاعرهم المداح البطل الذي يستهل أولى فقراته بالإنشاد الشهير:
أول ما كتب القلم كتب القلم الله
وكمل السطر بمحمد رسول الله
كان الرجال في حلقة الذكر الصوفي يتمايلون يمينا ويسارا (الله حي…الله حي) حتى تتصاعد درجات الذكر إلى طاقة فوارة للغاية يرفع منها ذلك الساحر المدهش عازف الناي الخطير.
أما نحن الأطفال آنذاك فكنا نلهو حولهم أو نقف مشدوهي الأعين والأبصار، نتابع الموسيقى والرقص والإنشاد ونحفظ شطرا من هذا البيت الشعري أو ذاك، الذي يمدح الرسول وآل بيته وينوع بين وصف “طه” و”المصطفى” و”سيدنا النبي”.
في ليلة أمس، كنا جميعا نجلس على مقاعد معدنية في خشبة مسرح، وفرقة المداحين تتلاعب بقلوبنا وعواطفنا ومحبتنا للنبي وآل بيته.
لكن بين أغنية وأخرى كان يحدث شيء ثوري في القاعة يقلبها بهجة وفرحة فتندلع فيها الزغاريد كما لو كنا في فرح شعبي لزواج أو عرس بهيج!
حدث ذلك أكثر من مرة، أذكر منها حين بدأ المداحون ينشدون أغنية مبهجة يقول مطلعها:
“إني أحب محمدا …..صلوا عليه وسلموا”
واضح أن جمهور الحضور يحفظ هذه القصيدة جيدا، فقد انفجرت طاقة العواطف والآهات والتهليل والتسبيح من الحضور تناغما مع الإنشاد.
وتكرر الشيء نفسه مع قصائد مبهجة حماسية أخرى، أذكر منها “مدينة العلم علي” في إشارة إلى مكانة الإمام علي بن أبي طالب ومحبة رسول الله له.
كانت فرقة المديح تعرف جيدا – بخبرة مداحيها وموسيقييها- متى ترفع الحرارة في القاعة ومتى تلطفها.
في نهاية الحفل تبين لي كيف كان الحضور في حالة بالغة من البهجة والفرح مع بضع زغاريد وتصفيق على أنغام راقصة يتداخل فيها ما هو ديني مع ما هو دنيوي، ما هو سماوي مع ما هو أرضي.
لا أقول إن درجة البهجة وصلت إلى حد الرقص لدى الجمهور كما رأيت في صلوات كنيسة البرازيل التي أقيمت في مرآب للسيارات، لكني أقول إن هذا الشعور الديني المتنوع بين التهليل والتسبيح والصلاة على النبي وآل بيته كان مشفوعا بموسيقى للحياة والبهجة والطاقة الفوارة.
قبل انتهاء الحفل ببضع دقائق استبقت الباب لأطالع الوفود الخارجة وأراقب من أي فئة اجتماعية جاءوا فوجدت علامات الطبقة الوسطى أو ما بقي منها، فئة مطمئنة نسبيا، تحفاظ على إيمان القلوب بأكثر ما يهمها طقوس الشكل أو المظهر.
حاولت أن أفلسف الأمور، فقلت لنفسي إن هذا طيف من أطياف الإسلام الشعبي في مصر وأننا في دولة عميقة وعظيمة وثرية فيها كل ألوان الطيف.
تخلصت سريعا من هذه المصطلحات التي هبطت في غير موعدها. تركت اقدامي تتسكع قليلا على ضفة النهر، عبرت جزيرة الزمالك.
رددت آخر ما بقي في مسامعي من الحفل المبهج والكلمات الخاطفة للقلوب :
“إني أحبُ محمدًا..صلوا عليه وسلموا”.
بقلم د.عاطف معتمد
صفحتنا الرسمية توأم الشعلة بالعربي
صفحتنا الرسمية فرندة – Farandh