ياسمين الخطيب تكتب لـ فرندة عن حكاية البيت الجديد وفئران لميس الحديدي
من حوالي 5 أعوام..
سكنت بيتاً مسكوناً بالفعل بقبيلة من الفئران. كانت علاقتنا في البدايات مقتضبة وقائمة على الإحترام المتبادل، ثم تحولت بطول العشرة إلى تفاهم وود عميق.
بعد تعريفهم بنفسي أطلقت عليهم أسماء مشتق معظمها من أضداد كلمة (فأر = فقر)، مدفوعة بعلة التشائم التي لم أبرأ منها إلى الآن. سميت كبيرهم “مرزوق” وزوجته التي لا أفرقها عنه “مرزوقة”، أما الجيل الأصغر فحمل أسماء: رزق.. فرج.. يسرا.. هناء.. بخيت.. كرم.. بينما بقي الجيل الثالث بغير أسماء.
توطدت علاقتي بالأسرة الرمادية بفعل الزمن وحظر التجوال، الذي فرض علينا في أعقاب ثورة ٣٠ يونيو إقامة جبرية معاً في ذلك البيت الصغير، الواقع على أطراف القاهرة الجديدة. وقد أسهم إنعدام شبكة المحمول فيه في مضاعفة عُزلتنا، حتى تلاشت تماماً رهبتهم الأولى مني، وألِف كل منا الآخر..
كنت أجهز في الصباح سندوتش الجبن الرومي الذي نُحبه، وأضع نصيبهم إلى جانب الثلاجة، التي اتخذوا منها ساتر لجحرهم، فيخرج أحدهم لإستلام الإفطار مطمئناً. وفي الليل، أتابع وحدي أمام التلفاز أحدث أخبار أهل رابعة وتصريحات عدلي منصور، وإعتصامات ومظاهرات هنا وهناك، فتمر مرزوقة وزوجها للإطلاع (كانا يفضلان برنامج لميس الحديدي)..
شهور مضت ونحن نعيش معاً في سلام لا يشوب صفاءه كدر، حتى أقدم فأر أرعن متهور من جيل الشباب على عض أصبعي أثناء نومي.. فاشتعل فتيل الحرب..
اكتفيت من المناورة الأولى بأسر أحد الصغار في (المصيدة)، وتركه لساعات يستغيث بلا غوث، ليعتبر كل آل مرزوق، لكنه استطاع لصغر حجمه أن يفلت من بين القضبان الحديدية بحركة مُدهشة، فجن جنوني..
هُيئ لي لحظتها أني سمعت صرخات إنتصارهم، بعدما أحرزوا هدف الفوز في الدقيقة 90!
تخيلت أنهم استقبلوا الناجي بالرايات الملونة والشماريخ، بعدها جهزت مرزوقة وليمة عشاء تليق بالانتصار، يحتل مائدتها طبق من السمبوسة المحشوة بالجبن الرومي، الذي أمددتهم به في الأيام الخوالي!
بينما جلس مرزوق بالقرب من مدخل الجحر للمراقبة مع مجموعة من البراعم، ولم يتوقف أجرب المجاري عن التدخين والألش الرخيص على هزيمتي طوال الليل، حتى انني لم أتمكن من النوم بسبب ضحكاتهم وسعاله..
بعد أيام، لاحظت مرور “مرزوقة” أمامي عمداً، جهاراً نهاراً وبغير تقية، كأنما تود القحباء أن تقول: “ولا بيهمنا”!
لم أستجيب لإستفزازها، فأنا على وشك حسم المهزلة.. جهزت بهدوء فخ (اللازقة) المستوردة، وجلست أدخن سيجارتي وأنا موقنة بالانتصار.
في الفجر صحوت على صرخات إستغاثة..
كان الأسير هذه المرة من الرعيل الأول.. مرزوق.. ربما مرزوقة.. لا أعلم، فأنا لم أميزهما أبداً إلا من خلال سياق الأحداث!
عندما وصلت كانت قطعة الكرتون التي تحمل الجسد المُحتضر محاطة بمجموعة من الأحبة، انصرفوا فزعين لحضوري.. هاتفت أحد الأصدقاء لنجدتي، وجلست على الأرض أمام المُصاب أبكي..
ليه خلتني اعمل كده يا مرزوق.. ده احنا كنا صحاب وبينا عشرة على الحلوة والمرة.. ليه؟!
وضعه الصديق في كيس بلاستيكي، بعدما استحلفته بكل عزيز عليه أن يقتله سريعاً ليُنهي عذابه..
أدركت يومها أن هذه الرحمة التي يسمونها (علوئية)، أورثها لي أبي، فقد أقام ذات يوم مجزرة للنمل الذي غزى أحواض الزهور الأثيرة إلى قلبه، بعدها حكى لي بعينين مغرورقتين بالدموع، أنه ترفع عن قتل نملتين شاهدهما بعد المجزرة، إذ هُيئ له أنهما ينتحبان على ما حل بمملكتهما وأحبتهما..
رحلت عن هذا البيت بعد الحادثة بأسابيع قليلة، مُودِّعة أرملة مرزوق وعائلتها المكلومة، وطمست الأيام معظم ذكرياتي به..
لم تكن ذكريات سعيدة على أي حال، كانت معيشته ضنكا، لكني لم أنسى أبداً رفقاء الضنك.. آل مرزوق.. أظن أن فعال الساكن الجديد دفعتهم للترحم كثيراً على زمني..
زمن العزلة.. وليالي الحظر.. وقلاع الأمل والجبن الرومي..
للمزيد..
تفاصيل زواج ياسمين الخطيب السري !! | على يد مأذونة وبدون معازيم صور حصري لـ فرندة
صفحتنا الرسمية فرندة – Farandh