رواية سانتوريني للكاتب ( أحمد جمال )
رواية مسلسلة مليئة بالغموض والإثارة
الفصل الرابع
” فتيل الأمل “
أراحَ الظلامُ عباءَته على المكان فجعل أشعة الشمس المائلة في الأفقِ تنحسر حتى اختفت .
كان كريم قد ترك الضابط وذهب والدموع لم تفارق عينيه ، أبْرَقَتْ السماء وقد أدْمَعَتْ حزنًا على حزن كريم فهطلت الأمطار بغزارة ، لم يُعِرْها أي اهتمام واستمر يمشي إلى بيته ، كان ينظر أمامه إلى الفراغ ولا يَرِف له جفن كأنه أعمى ، وصل إلى حديقة منزله بعد مدة طويلة اتعبت قدميه ولكنه فقد الشعور بالحياة كلها فهل سيشعر بقدميه حتى وإن كانتا متعبتان .
أسند ظهره إلى شجرة وانفجرت عيناه بالبكاء ، كان قلبه يتقطع من الألم مما رآه اليوم ؛ فقد رأى طفلًا محترقًا لا يظهر إلا نصف وجهه ويبدو في هيئته كأنه فهد ، كان يرتدي نفس الملابس ولكن نصفها احترق مع معظم جسده ، وفي نفس طوله ويبدو كأنه في مثل عمره .
_” حدث حريق كبير في أحد المنازل المهجورة ولم يكن يوجد أحد سوى هذا الطفل في هذا المنزل “
هكذا كُتب في التقرير الذي رآه كريم مع الضابط مُلحَقًا به بعض الصور للمنزل وللطفل أيضًا .
حتى الآن لا يصدق كريم أنه هذا هو ولده الصغير ، لكن كل الدلائل تشير إلى ذلك ؛ فقد اختفى فهد فجأة ولم يُسمع عنه خبرٌ لمدة أسبوع كامل ، وفي هذا اليوم بعدما كلّمه الضابط وجد طفلًا شبه متحرق ويشبه ابنه كثيرًا فهل يوجد احتمال آخر !!
نعم يوجد ولكنه ضئيل جدًا .
كل هذا تصارع في رأس كريم وهو يبكي أمام منزله ، وفجأة سمع صوتًا يأتي من جميع الاتجاهات في آنٍ واحد فانتفض فزعًا وقال : ” من هذا ؟ “
فإذا بالصوت من جديد ولكنه لم يفهم ما يقوله هذا الصوت ، ” يا إلهي ، أنا أعلم هذا الصوت ، لا يمكن ألا أُميِّزُهُ “
قالها كريم بصوتٍ عالٍ ثم أردف قائلًا وقد ازدادت الدموع في عينيه ولكن لاح شبح ابتسامة على شفتيه : ” أين أنت يا بُنيّ ؟ “
أخذ يركض ويبحث في كل مكان ولكن لم يجد شيئًا ، رفع صوته قائلًا : ” أين أنت يا فهد ؟ ” ، وفي هذه اللحظة هدأت السماء عن الأمطار وكأنها تريد أن تستمع لكريم حتى توقفت تمامًا .
سمع كريم الصوت مجددًا وأيضًا لم يستطع تمييز أي كلمة كأن الصوت غير منتظم الترددات ، ولكن تناهى إلى سمعه كلمة يعرفها ، وسط كل هذه الكلمات غير المفهومة استطاعت هذه الكلمة أن تخترق أذن كريم وقد فهمها .
_” لا تخف ” ، كلمة واحدة جعلته يسكن في مكانه وجلس أرضًا ، فسمعها مرة أخرى وأخرى ثالثة ، كانت ” لا تخف ” وبعد ذلك توقف الصوت تمامًا .
شعر بالدوار الشديد نتيجة هذا الركض المتلاحق حول منزله وفي لحظة واحدة سقطت رأسه أرضًا وقد أُغشي عليه ، يبدو أنه قد أصابته الحُمَّى نتيجة هذا المطر الشديد الذي هطل عليه أثناء عودته وحتى سماعه لهذا الصوت .
ظهرت أشعةٌ من الأفق تحمل الأمل الكبير ، مالت على السماء فتداخلت ألوانهما مكونتان ألوان الطيف الرائعة ، لقد أسدل الصباح الستار على الكون فملأه بهجة وسرور ، داعبت نسمات الهواء الباردة وجه كريم .
انتفض جالسًا كمن صُعِق بالكهرباء ، وسرعان ما تمالك أعصابه وهدأت أنفاسه وعاد له اتّزانه الفكري .
أخذ يفكر فيما حدث أمس ، كان يظن في بادئ الأمر أنه كان يحلم ، ولكنه تأكد أنه سمع صوتًا بالفعل عندما رأى الحشائش مبعثرة هنا وهناك مِنْ أثرِ ركضه أمس .
مسح وجهه بيديه ليزيل آثار النوم ، سعل كثيرًا حتى كادت ضلوعه تنفجر من شدة السعال ، يبدو أن الحُمَّى قد أصابته بالفعل ، ارتفعت درجة حرارته كثيرًا وكان جبينه يتفصَّد عرقًا .
صعد على الدرج حتى وصل لغرفة فهد ؛ فكان لا ينام إلا بها منذ اختفاء فهد ، القى بجسده على السرير منهكًا ، متعبًا ، مريضًا ، وهنا غلبه الكرى بسبب مرضه فغطَّ في نومٍ عميق .
أتى الليل سريعًا هذا اليوم فكريم لم يستيقظ طوال النهار وكان جسده يهتز ويرتعش ، استيقظ وكان جسده كله مُبتلًا من العرق ، قاوم ونهض حتى يُعِد لنفسه أي مشروب ساخن يخفف عنه ما به من آلام ، أعدَّ الكوب من بعض الأعشاب الطبيعية التي كان يجمعها وجلس يشربه في غرفة المعيشة ، وشعر بارتياح قليلًا بعد هذا وقرر أن يذهب للاستحمام فقد ابتلت ملابسه عرقًا ، بعد الاستحمام جلس يفكر في ما سمعه في الليلة الماضية ، هل هذا بالفعل هو فهد أم هي هلوسة اجتاحت عقله وصدقها .
_” أشعر أن هذا هو ولدي فهذا صوته لاريب وقال ” لا تخف ” كأنه يعلم ما بي وأراد أن يعلمني أنه مازال حيًّا ، ولكن من أين أتى هذا الصوت ؟ “
كل هذه أسئلة وأفكار تضاربت في عقله ، ولكن بصيص من الأمل دبَّ في قلبه وهذا يكفيه في مثل هذا الوقت الفارغ من السعادة والأمل ، لاحت على شفتيه شبح ابتسامة عندما تذكر كيف كان يلعب مع ولده ، وكيف أنه في يومٍ حاول إخافته فصعد للطابق العلوي وقال بعض الكلمات التي تردد صداها في المنزل لاتّساعه وهذا أخاف فهد وجعله يبكي لأنه ظن أن والده قد ذهب وتركه وحيدًا ولكن هرول كريم إليه وطمأنه أنه لن يتركه مهما حدث في حياتهما .
تذكر عندما تأخر فهد في اللعب خارج المنزل في يومٍ آخر فظل كريم يبحث عنه حتى وجده فوق شجرةٍ صغيرة في حديقة المنزل وقد كان مختبئًا منه عليها فقط من أجل اللهو واللعب معه ولم يقصد إخافته .
لقراءة الجزء الخامس
رواية سانتوريني للكاتب أحمد جمال (الجزء الخامس) |مكتبة فرندة
لقراءة الجزء الرابع
رواية سانتوريني للكاتب أحمد جمال (الجزء الرابع) |مكتبة فرندة
_” حقًّا إنه لفتى مجنون ومتهور ” قالها كريم عندما تذكر أنه في أحد الأيام صعد فهد على قمة منزله وكان هذا صعبًا عليه لأنها مثلثية الشكل وليست مسطحة ، وحاول فهد أن يقفز للشجرة الكبيرة أمام المنزل محاولًا أن يقطف الوردة المزهرة فيها ، وقد قفز بالفعل ولكنه كاد أن يسقط من عليها فتمسّك بغصن من الأغصان حتى صعد له كريم وأنزله ، لم يرد كريم أن يوبخه في هذا اليوم ؛ فقد أحب روح المغامرة تلك فيه ولم يرد إخمادها في هذه السن الصغيرة ، لذا فقد تحدّث إليه كأنه رجل بالغ أمامه وفوجئ بتفهّم فهد لكل كلمات والده وعمل بها حقًّا ،
مرَّ شريط حياة فهد أمام عينيّ كريم فتذكّر كل هذا وأكثر ، تذكر نظرة فهد له عندما كان يحمله وهو لم يتجاوز العام الأول من عمره ، كانت نظرة مليئة بالسعادة فسكبت في روح كريم مياه البراءة والنقاء اللتان في فهد .
أتعلمون شيئًا ! عندما رأيت كريم في هذه الحال ، وكيف أنه يتذكر كل تفاصيل حياة فهد صغيرةً كانت أم كبيرةً ، وقفت أتمعّن في وجهه كثيرًا وقد كان شاردًا ومبتسمًا وقلت في نفسي : ” أيمكن أن يكون هذا مجرد أب !؟ “
بالطبع لا ، إنه من القلائل الذين احببت مراقبتهم في صمت ، بالطبع هو لا يستطيع رؤيتي ، ولكني أكثر من مرة أظن أنه رآني أو شعر حتى بوجودي ، ولكن كل هذه الشكوك تختفي تلقائيًا لدي ولا أعلم سبب مجيئها أو ذهابها حتى الآن .
يُقال أن العين هي نافذة الروح لكني أرى خللًا في هذه المقولة ، لأني رأيت الكثير والكثير ، تراهم وتقول عنهم أطيب الكلام ، لكن قلبهم ملئ بالسواد والشر حتى لأقرب الناس لهم ، ولكن عندما رأيت كريم في هذه اللحظة بالتحديد وجدت أن عيناه هي بالفعل نافذة لروحه بل وجهه بأكمله وليست عيناه فقط .
ظل كريم شاردًا ولم يشعر بالوقت وهو يمر ، حتى انتبه للوقت عندما امتلأت غرفة المعيشة بأشعة الشمس الذهبية تصافح جسده ، وتخبره بأنه بداية يوم جديد .
نظر كريم إلى الساعة فوجدها الخامسة فجرًا ، ” حقًّا إن الوقت قد يُسرق منك من فكرة تجول في عقلك ” قالها كريم وهو ينهض من على الكرسي وقد شعر أنه عاد لصحته ، شعر بالاندهاش الشديد فقد كان منذ ساعات ينتفض على فراشه من شدة الألم وها هو الآن كأنه لم يحدث شيء على الإطلاق .
ذهب كريم ليحضر الإفطار ووجهه مشرق كما لم يكن خلال هذه الأيام العصيبة ، وجلس يلوك الطعام في صمت وقرر أن يخرج ليبحث عن ولده مجددًا بنفسه هذه المرة عندما تيقّن قلبه أن فهد مازال حيًّا ، أشفق على هذا الطفل الذي رآه وعلى والديه عندما يعلمان بهذا ، وتمنى لهم الصبر على تلك الفاجعة .
كان يريد إخبار ذلك الضابط بما حدث له وأن هذا ليس ابنه ، ولكن لن يصدقه أحد عندما يخبره ما حدث فعلًا ، فقرر عدم إخبار أحد بأي شيء .
خرج إلى حديقة منزله وبدأ بحثه حول منزله ولاحظ عائلات الطيور التي كانت فوق الأشجار تطير فوقه كأنها تبحث معه ، كان فهد يهتم بها كثيرًا وبالأخص عندما يصاب أحدها ، أخذ يبحث ويبحث طوال النهار ، هنا وهناك ، حتى امتلأ جبينه عرقًا من التعب والإرهاق طوال النهار ، وعندما حلَّ الليل عاد لمنزله حزينًا ، لكنه يأمل أن يجده في اليوم التالي ، صعد إلى غرفة فهد وجلس على السرير يفكر أين سيبحث في اليوم التالي ، ثم أراح جسده على السرير حتى غلبه النُعاس .
استيقظ في الصباح وكان أنشط من ذي قبل وشعر بالقوة تسري في عروقه ، أفطر سريعًا ثم ذهب للخارج مجددًا ، وقف أمام المنزل يستنشق الهواء العليل صباحًا حتى يبدأ في بحثه مجددًا .
شعر أن يده اليمنى تحترق فنظر ليده فإذا بالوشم يتحول لونه للأحمر الآجريّ مرة أخرى ، فتأكد الآن أن ما حدث له قبلًا ليس وهمًا فهذا يحدث مجددًا ، أمسك يده اليمنى باليسرى وسقط أرضًا من الألم فقد كان شديدًا عن المرة السابقة وأيضًا كما حدث في المرة السابقة ، اختفى هذا اللون وعادت يده كما كانت كأن لم يحدث بها شيء ، لكنه لاحظ شيئًا جديدًا تلك المرة .
عندما سقط أرضًا كان وجهه مواجهًا لتلك الشجرة العملاقة أمام منزله ، فذُهِلَ عندما رأي الوشم الذي على يده موجودًا على الشجرة و بارزًا قليلًا وكان مُغطَّى بالأتربة ، هرول مسرعًا ومسح التراب عن تلك الرسمة ثم أغرورقت عيناه بالدموع وقال : ” أرجو أن تعود سالمًا يا فهد “
لمتابعة الجزء السابع من رواية سانتوريني
رواية سانتوريني للكاتب أحمد جمال (الجزء السابع) |مكتبة فرندة
لقراءة رواية سانتوريني ومعرفة أحداثها من البداية
رواية سانتوريني للكاتب أحمد جمال Mp3 |مكتبة فرندة
صفحتنا الرسمية فرندة – Farandh