شمس النهار | حيرة المحبة بين من علمنا ومن علمناه !!
بقلم الدكتور عاطف معتمد
شمس النهار لـ توفيق الحكيم !
لو لم تقرأ مقدمة توفيق الحكيم لهذه المسرحية لقلت إنها تجربة ساذجة في الأدب.
فالمسرحية في ظاهرها بسيطة لا حبكة فيها، والحوارات، من القراءة السريعة، ليست سوى ديالوج مباشر يخلو من عمق أو يكاد، كما يعوز نهايتها حبكة أكثر إقناعا ودرامية.
ومع ذلك، لا بد أن تستوقفك كلمات الحكيم وهو يصف المسرحية في المقدمة منبها إياك بأنها “أدب تعليمي”.
موضوع المسرحية أقرب لحكايات الأطفال ومسامرات هادئة في ألف ليلة وليلة، ليس لدينا زمان بعينه ولا مكان معلوم، والأميرة ابنة السلطان المسماة “شمس النهار” ترفض الزواج إلا من رجل يأتي لها بإقناع عقلي وحجة وبرهان تكون دليلا على أنه يستحق أن يكون لها شريكا في العمر.
ولكي يتحقق ذلك تفتح الأميرة باب التقدم لكل رجال البلاد على اختلاف درجاتهم الاجتماعية: الوضيع قبل النبيل والفقير قبل الغني، مع شرط بسيط بتوقيع عقوبة الجلد على من يفشل في إقناع الأميرة بالزواج منها.
يتقدم عشرات الوجهاء والأغنياء وترفض الأميرة في كل مرة، ثم في النهاية ينجح أحدهم في أن يستوقفها بحجاجه العقلي حين يقول لها إنه جاء ليتزوجها لا ليسعدها ويغير حياتها بل لكي تقوم هي بتغيير حياته لأنه لا يصلح لشيء في الدنيا وأنه يريد أن يتزوجها ليعطها الفرصة كي تستمتع هي بأن “تصنع منه” شيئا نافعا.
للمزيد..
3 فنانات وأديب| إحسان عبد القدوس والجميلات !!
تعجب الأميرة بالفكرة وتخرج مع الرجل في رحلة خطبة قبيل الزواج كي تصنع منه شيئا مفيدا لكن الأحداث تبين كيف أنه هو الحكيم الماهر الخبير العارف الذي صنع منها إنسانا جديدا وعلمها من الزهد والحكمة والترشيد والإقناع ما لم تعرفه في القصور الملكية.
وفي منتصف القصة يتقابلان مع أمير شاب غافل يمرح الفساد في ملكه فتنجح شمس النهار في أن تنقل ما تعلمته من حكمه إليه وتغير عقله وتصنع منه إنسانا جديدا.
عند هذه المفارقة تقع شمس النهار في حيرة بين محبة من علمها وصنع منها شيئا وصار جديرا بأن يتزوجها وبين محبة من علمته وأصبح صنيعتها حتى أنها لتبهج نفسا برؤيته وقد صار خلقا جديدا، أو يكاد.
لم يقع توفيق الحكيم في النهاية الساذجة بأن تتزوج شمس النهار واحدا منهما بل يقرر الحكيم (والمؤلف هو خالق أقدار الأبطال) بأن يفترق الجميع.
في لحظة الوداع ينصح المحب العاشق الذي صنع من الأميرة إنسانا جديدا أن تعود شمس النهار إلى بلادها لتنشر فيها العدل والحكمة والرشد بعد أن عرفت الحياة على حقيقتها ورأت في العالم الواقعي الفساد والسرقة والخداع وذاقت الخوف والجوع بعد أن كان كل شيء مجابا في قصرها المشيد.
للمزيد..
إحسان شحاتة ومحجوب عبد الدايم .. القلب ياما انتظر!! (القاهرة الجديدة pdf وMp3)
بعد أن قرأتُ هذه المسرحية قلت في نفسي إنها لا تستوجب أن أكتب عنها سطرين أو ثلاثة، فمتعتها أن نطالعها فقط وننسى ما بها.
لكني تذكرت مقدمة الحكيم التي يصف فيها صفحاته المقبلة بأنها ليست إلا “أدبا تعليميا”.
لقد أدهشني كيف نجح توفيق الحكيم بهذا التنويه الصادق الذكي في أن يحقق مصالحة سليمة بين الكاتب والقارئ، وكيف مد جسرا من التقدير العقلي ضمن به أن تصل كلمات الكاتب إلى عقل وروح المتلقي.
وبينما أغلق صفحة الغلاف الخلفي وأضع المسرحية في رف الكتب القديمة إذ السؤال يهمس في أذني كطيف هاتف:
هل نحن حقا نحب “من صنعناهم” بينما لا نكلف أنفسنا سوى كلمة شكر لمن صنعونا؟ لماذا نريد الهروب من ذكريات من صنعونا وأياديهم البيضاء علينا؟ لماذا نفرح بمن صنعناهم أو بمن يمكن أن نصنعهم فإذ بنا نمنحهم ما تبقى من العمر والمال والوقت؟!
الإجابة في “شمس النهار”
تلك المسرحية القديمة، البسيطة حد الإغراء بالسذاجة، العميقة حد الاقتراب من الفلسفة.
بقلم الدكتور عاطف معتمد