أبنائي الأعزاء شكرا !! | بابا عبده وتبرير الرفض بين جيلين !!
بابا عبده !
حين كان عمري 10 سنوات شاهدت العرض الأول لمسلسل “أبنائي الأعزاء شكرا” الذي كنا نسميه اختصارا مسلسل “بابا عبده”.كما يعرف الجميع، تدور أحداث المسلسل حول علاقة الأب الذي بلغ سن المعاش مع الأبناء وزوجاتهم، ومواقفهم المتباينة من حُسن/سوء التعامل مع والدهم بعد سن المعاش
فضلا عن المفارقات الطريفة التي يصر فيها بابا عبده على تسيير حياة الأبناء، كما يفكر هو، لا كما يريدون هم.
في المرات العديدة التي شاهدت فيها المسلسل، لم تكن مسألة علاقة بابا عبده بالأبناء تشغلني كثيرا بقدر اهتمامي بموقف واحد شغلني تفسيره عبر مراحل العمر المختلفة.
كنت أعيد تفسير الموقف الذي رفض فيه “بابا عبده” أوامر مدير الشركة بأن يتعلم الموظفون الكومبيوتر ويتركون الآلة الكاتبة البالية.
تسبب رفض بابا عبده في إفساد علاقته بمدير الشركة، الشاب العصري الذي يريد تحديث شركته لمواكبة التحول الرأسمالي في عام 1979: تاريخ إنتاج المسلسل.
في أول مرة شاهدت فيها الموقف وأنا ابن العاشرة، كنت أميل إلى لوم بابا عبده:
لماذا لا يتعلم الحاسب الآلي ويتخلى عن الآلة الكاتبة القديمة؟ لماذا يرفض أن يكون عصريا ومواكبا للأحداث؟
وبمرور الزمن وفي خيارات الشباب ازددت اقتناعا بإلقاء اللوم على عناد بابا عبده لرفض تعلم وسيلة عصرية.
لكن شيئا كبيرا قد تغير في وجهة نظري في السنوات الأخيرة ولا سيما مع المتطلبات التي فرضتها أزمة كورونا على مناهج التعليم.
مع وباء كورونا، والدعوة لإلقاء المحاضرات أونلاين، وجد المحاضرون أنفسهم أمام ضرورة الأخذ بتقنيات جديدة وتوفير منصات يوتيوب وإتاحة محاضرات ولقاءات فيديو للطلاب أو المتابعين للمنتج الثقافي.
لقد حاولت في السنوات الثلاث الماضية أن آخذ بهذه الأسباب الجديدة دون تحقيق نتائج إيجابية، صحيح أنني أفضل حالا من غيري إلا أنني أستطيع أن أقول إنني وكثير من أبناء جيلي (الذين أعرفهم) ممن تجاوزا سن الخمسين لم نحقق أية نتائج ملموسة.
وقد جاءت المشكلة الكبيرة حين طغى على حياتنا الرقمية كارثة اسمها “عدد المشاهدين”.
في الأحوال التقليدية لا يتأسف الأستاذ في الجامعة لو كان الحاضرون 10 طلاب أو 100 أو 1000.
بل على العكس يشعر البعض براحة أكثر حين يكون الحضور 50 طالبا وليس 300.
الوضع مختلف تماما على اليوتيوب، فقد أصابتنا جميعا حمى مراقبة عدد المشاهدين، في منافسة غير متكافئة مع الفنانين ونجوم الإعلام والفكاهة والسياسة.
فصانعو محتوى الموضوعات المثيرة يحققون مئات الآلاف، أما أساتذة الجامعات الذين غامروا بالخوض في الحداثة والعصرنة
على اليوتويب فلا يحققون إلا أرقاما متواضعة: بضع عشرات وأفضلهم حفنة من المئات.
الأرقام المتواضعة هي في الحقيقة أرقام فعلية لعدد المهتمين بهم، فحين يشاهد حلقة متخصص في الجامعة 70 أو 250 مشاهد، فهذا رقم طبيعي، لكنه يبدو قزما حين يقارنه الناس بحمى الأرقام الفلكية.
لعل هذا هو ما جعلني أتذكر الرفض الذي قام به “بابا عبده” والذي كنت أفسره على أنه عناد وتجمد، ويمكنني الآن أن أسميه “تصرفا حكيما يناسب قدرات بابا عبده”.
سطوري هذه لا تعني أنني ضد تطوير الأستاذ نفسه أو مواكبة عصره وزمنه ولكنني أود التنويه إلى أن مهارات الفيديو واليوتيوب وغيرها تحتاج تدريب طويل ومهارات وعمل يستغرق عدة سنوات.
ولعلني هنا أناشد الشاب في سن الثلاثين والأربعين أن يأخذوا الأمر بجدية كاملة، لأن منهج التجربة والخطأ يسلتزم 5 سنوات وربما 7-10 سنوات من العمل الجاد والتطوير المستمر لتكوين عدد مقنع من المشاهدين والانفتاح على قطاعات استقبال أكبر وأكبر.
وطالما الأمر يحتاج سنوات طويلة، وما دام ما بقي لكبار السن سنوات قليلة فإنهم دوما سيتراجعون عن المغامرة بالخوض في تجارب جديدة، وسيوفرون سنوات العمر “الثمينة” لما هو متأخر من أعمال وما يحسنونه من مهارات قديمة.
أتوقع طبعا أن تثير هذه السطور نوعين من وجهات النظر، وأرحب بكل منهما:
– أن منهج بابا عبده صائب، لأن هناك مرحلة عمرية لا يجب فيها تجريب مهارات تحتاج سنوات طويلة واستعداد وتفرغ غير متوفر فيما بقي من عمر.
– أن على الإنسان أن يجرب، ويتعلم ويفشل وينجح ويفشل حتى آخر لحظة في العمر. فأن يبدأ في الخمسين أفضل من أن يبدأ في الستين، وأن يبدأ في الستين أفضل من أن يبدأ في السبعين.
بقلم د. عاطف معتمد
للمزيد..
طوق الحمامة لابن حزم | علامات الحب إدمان النظر والتصديق واللمس