ياسين التهامي في الأوبرا | نصحتك علما بالهوى!!
بقلم الشاعر القدير عمرو فرج لطيف
مقال: تفاصيل حفل عميد المنشدين الشيخ ياسين التهامي في دار الأوبرا المصرية بتاريخ ١٣ أبريل ٢٠٢٣
التهامي يقيم حضرةٍ روحية بدار الأوبرا المصرية مع تفصيل فنِّي للمقامات التي استعملها بقلم خبير المقامات د. طه عبد الوهاب
بقلم د. عمرو فرج لطيف
عضو اتحاد كتاب مصر
.
من داخل أروقة الكيان الثقافي الأول في مصر ( دار الأوبرا المصرية) أطلَّ علينا عميد المنشدين الشيخ ياسين التهامي فى سهرةٍ رمضانيةٍ روحانيةٍ فريدةٍ طوَّفنا فيها ما بين مدائن الشعر البديع وتجليَّات صوته وروحانياته المتفرِّدة.
ياسين التهامي هو هرم مصر الرابع، وعميد المنشدين وصاحب مدرسه الارتجال الإبداعي المنظم، ويُعتبر أحد ركائز وأهم حلقات الوصل ما بين عالم التراث الشعري وعالم الواقع المنشود، وهو الذى يحمل على عاتقه مسئولية الحفاظ على الهوية العربية والإسلامية في ملمحٍ وجدانيٍ صوفيٍ لا يُضاهى؛ من حيث قدرته الفريدة على اختيار الكلمات والتي دائما ما يقول عنها ( مُوَثَّقَة ): بمعنى أن لها دليل ومرجع من الكتاب والسنة، من دون مبالغة حسيه أو معنوية، فهو الهائم في سماء الكلمة والمشغول بالبحث عن دواء عِلَّتِهِ أو كما يقول ( روشتة علاجه )؛ حينما يَهُمُّه أمر أو تأسره لحظة إبداع ، فهو القادر على الولوج في عالم المعنى بكلَّ إحداثيات وصدق المبنى بمنتهى الحرفية الممزوجة بالبساطة المعقدة.
وَمِن بينِ شُقوقِ الحنين أعادَنا التهامي مَرَّةً أخرى، وأَنبتَنا في أرضِ الجمالِ ، لِيعبرَ بنا إلى ضفةٍ لن نراها إلَّا معهُ وعلى يديهِ. يقتربُ بأنفاسهِ الزاكيات، يهمسُ بِكُلِّ شغفِ الودِّ في مسمعِ هواجسنا فَتحملنا نسماتُ حنينهِ إلى حيثُ بحرٍ من المشاعرِ قد تلاطم بموجِ الدمعِ ساحِلُهُ، ويغمرنا بأحاسيسٍ متداخلةٍ في موجات التأمُلِ الساكن بالتحريكِ في كونِ الغيابِ، والصبرِ الوارفِ في ساحاتِ الحبِّ غيرِ المشروط وغيرِ المعهود في دنيا الوصلِ على مجرَّاتِ الخيال.
وقد ابتدأ العميد ليلته برائعة (هو الحب) لسلطان العاشقين عمر بن الفارض وقد أنشد منها هذه الأبيات كالتالي:
هو الحُبّ؛ فاسلم بالحشا؛ ما الهَوى سهلَ؛
فما اختارَهُ مُضْنى به وله عقْلُ.
وعِشْ خالياً؛ فالحُبّ راحتُهُ عَناً،
وأَوّلُهُ سُقْمٌ، وآخرُهُ قَتْلُ.
ولكنْ لديّ الموتُ فيه صَبابةً
حياةٌ؛ لمَن أهوى عليّ بها الفضل.
نصحْتُك عِلماً بالهَوَى، والذي أرى
مخالَفَتي، فاختر لنفسكَ ما يحلو.
فإن شئتَ أن تحيا سعيداً؛ فمُتْ بِهِ
شهيداً ، وإلاّ فالغرامُ لهُ أهْل.
فمن لم يمُتْ في حُبّه؛ لم يَعِشْ به،
ودون اجتناءِ النّحل ما جنتِ النّحلُ.
تَمَسّكْ بأذْيالِ الهَوَى، واخْلَعِ الحيا،
وخَلّ سَبيلَ الناسكينَ وإن جَلّوا.
وقُلْ لقتيلِ الحبّ: وَفّيتَ حقّه،
وللمُدعي: هيهاتَ ما الكَحَلُ الكُحْلُ.
تعرّضَ قومٌ للغرامِ، وأعْرَضوا
بجانبهم عن صحَّةٍ فيه فاعتلوا.
رَضُوا بالأماني، وابتُلوا بحظُوظهم،
وخاضوا بحار الحبّ دعوى، فما ابتلّوا.
فهُمْ في السُّرى لم يَبْرَحوا من مكانهم،
وما ظَعَنوا في السّير عنه وقد كَلّوا.
وعن مذهبي، لمّا استَحَبّوا العمى على
الهُدَى؛ حَسداً من عَنْدِ أنفسهم ضَلّوا.
أحبّةَ قلبي والمَحَبّةُ شافعي
لدَيكم، إذا شئْتُمْ بها اتّصل الحبلُ.
عسى عَطْفَةٌ منكُمْ عليّ بنظرةٍ؛
فقد تعبَتْ بيني وبينَكُمْ الرُّسُلُ.
أحِبَّايَ أَنتُم، أَحسَنَ الدّهرُ أم أسا،
فكونوا كما شئتمْ أنا ذلك الخِلُّ.
إذا كان حظي الهجرَ منكم، ولم يكن
بِعادٌ؛ فذاك الهجرُ عندي هو الوَصْلُ.
وما الصّدُّ إلاّ الوُدُّ، ما لم يكنْ قِلىً،
وأصعبُ شيءٍ غيرَ أعراضِكم سهلُ.
وتعذيبُكُمْ عذبٌ لدَيَّ، وجَورُكم
عليّ بما يقضي الهوى لكُمُ عدلُ.
وصَبريَ صَبْرٌ عنكُمُ وعليكُمُ،
أرى أبداً عندي مرارتَه تحلُو.
أَخَذتُمْ فؤادي وهوَ بَعضي، فما الذي
يضُرّكُمُ لو كان عندكُمُ الكُلُّ.
نَأَيْتُمُ فغيرَ الدَّمعِ لم أرَ وافياً،
سوى زَفْرَةٍ من حرّ نار الجوى تغلو.
هوىً طَلَّ ما بين الطّلولِ دمي، فمن
جفوني جرى بالسفحِ من سَفْحِهِ وبَلُ.
تَبَالَهَأ قَومي؛ إذ رأوني مُتَيّماً،
وقالوا: بمن هذا الفتى مسّه الخَبْلُ!
وماذا عسى عنّي يُقالُ سِوى: غَدا
بنُعمٍ له شُغْلٌ؛ نعَم لي بها شُغلُ!
إذا انعَمَتْ نُعْمٌ عليّ بنظرةٍ،
فلا أسعدتْ سعْدَى ولا أجملتْ جُملُ!
وقد صَدِئَتْ عيني برُؤية غيرها،
ولَثمُ جفوني تُرْبَها للصَّدا يجلو.
وقد عَلِمُوا أنّي قتيلُ لِحاظِها،
فإنّ لها في كلّ جارحةٍ نصْلُ.
فنافِس ببَذْلِ النّفسِ فيها أخا الهوى؛
فإن قَبِلَتْهَا منكَ يا حبّذا البذل.
فمَنْ لم يجُدْ في حُبّ نُعمٍ بنفسِهِ،
ولو جاد بالدّنيا إليه انتهى البُخلُ.
ولَولا مراعاةُ الصّيانة غَيْرَةً،
ولَو كَثُروا أهلُ الصّبابة أو قلّوا.
لقُلْتُ لعُشّاقِ الملاحةِ أقبِلوا
إليها، على رأيي وعن غيرها ولَّوا.
وقد تخلَّلها هذا البيت من التراث والذي يقول:
وقال: (إذا لم تُحب فأنت لاجيء)
ومن قصيدتي ثالوث العشق وبتصرُّف من عميد المنشدين:
وقال : (هو الحبُّ حياةٌ متجدِّدة)
وقد كتبت:
الحبُّ اكسيرُ الحياةِ، ونبضةٌ
لا تستريحُ، ولهفةٌ متجددة.
وقال ( والعشقُ مِيتةٌ مُتعدِّدة)
وقد كتبت:
والعشقُ ثالوثُ: الترابطِ، والهيامِ
إلي الجنونِ، وميتةٌ متعدِّدة.
وقد تخلَّلها هذا البيت من التراث والذي يقول:
ما لي راحةٌ دون وجهكم،
وما لي شفيعٌ أرتضيه سوي حُبِّي.
وبعدها اختتم الليلة بقصيدة ( يا ملهمي) من كلمات الشاعرة المصرية الراحلة الأستاذة عليَّة الجعَّار وقد اختار هذه الأبيات كالتالي:
فلكٌ سما فى أفقه قلبانا،
وتعانقت بمداره روحانا.
الحب فيه ماؤنا وهواؤنا،
وضياؤنا، وصباحنا ومسانا.
لا شئ يفصل بيننا؛ فغرامنا
فيه اختلطنا مهجة وكيانا.
ياملهمي من أنت، تعرف من أنا!
أنا فيك أحيا منذ بدءك كانا.
إن قلتُ أنت؛ فإننى أنت الذي
أعني، وأقصدُ بالندا إيَّانا.
غُيِّبتُ عنك لفترةٍ ورأيتني؛
فعرفت أن لقاءنا قد حانا.
الحبُّ وحَّدنا؛ فصرنا نبضة
يمضى بها عبر الحياة كلانا.
وسقيتُ من فيكَ الحنانَ وعشت في
أحضان قلبك فامتلأتُ أمانا
وصحبتني فى رحلة النورِ التي،
نورُ السلامِ بعطفهِ غطَّانا.
والطهرُ أشرق خلفنا وأمامنا
والله قاد على الطريق خُطانا.
واختتم بهذا البيت والمنسوب لسعدي الشيرازي وفي نفس الوقت منسوب للأستاذة عليَّة الجعَّار ويقولُ:
والسرُّ فيما بيننا؛ هو أنَّنا
في عشقنا لا نعشقُ الأبدانا.
والمتأمل فى حال الليلة سيلحظ التالي:
١_ تنوُّعُ الجمهور مع الحشد الهائل بالمسرح المكشوف مما استلزم جهداً اضافياً من العاملين بالأوبرا لتوفير الخدمة المناسبةللجمهور.
٢_ الجمهور المتواجد كان بحق مختلف ويعبر عن النسيج المصري بكافة طيوفه، مع تواجد كثيف للأجانب والأخوة العرب ولا أنسى أن أقول أني رأيت توافد لعدد من الأخوة المسيحين مما يدل على أن العميد حالة مصرية خالصة يجمع شملهم ويشمل جمعهم بذوقه الراقي وحِسِّه المتفرد واحترام الكلمة والمحبين.
٣- حالة التجلِّي والروحانية المعهودة واللامحدودة لعميد المنشدين وانغماسه فى صلب المبني بكل روحانيات المعني واهتمامه بما يسمي الشعر الموثَّق أي ما يستند على دليلٍ له مرجعية مُثبتة من كتابٍ أو سُنَّة.
٤- تحقيق مبدأ تآلف الثقافات من الجمهور فها هو المثقف الروحاني والمتمثِّل فى الإنسان البسيط والذى لا يكاد يُدرك معنى الكلمات ولكنه ينغمس بروحانياتها وتراه ينتشي طرباً من روعة اللحن وأسر العبارة، واقفاً جنباً إلى جنب مع المثقف العلمي من حَمَلة أعلى الشهادت العلمية الجامعية بالإضافة إلى المثقف العلمي والروحاني والذي يعي المعني بدراسة متعمِّقة ويطرب من تنويعات آفاق المبني مما يدل على صدق التجربة لعميد المنشدين، وحفاظة على ثقة محبيه ومريديه، واحترامهم لما يقدِّمه من فنٍ أصيل يسمو بالروح ويروِّض الوجدان.
٥_ تمثيل المجتمع الوظيفي من خبراء الوزارات وعمداء الكليات وأساتذة الجامعات والأطباء والشعراء والعديد من الشخصيات الإعلامية البارزة، بالإضافة إلى المهتمين بالشأن الثقافي المصري بوجهٍ عام.
٦- عميد المنشدين الشيخ ياسين التهامي مكتبة ثقافية ابداعيِّة متنقلة يحوي كنوز الشعر والأدب ولديه القدرة العجيبة على تفسير الشعر بالشعر، ومزج الشعر بالشعر لينتج حالة من السحر الفريد وكذلك له القدرة على التصرُّف مما يثبت تميزه وتفرُّده فهو يكاد يكون الوحيد الذي يقدم إنشاداً فريداً بالفصحى.
٧- عميد المنشدين الشيخ ياسين التهامي قد أجاد بشكل راقي كما هو معهودٌ عنه في أداءه للكلمات بروعة الإنشاد الإرتجالي الإبداعي المُنَظَّم رغم تكرار القصائد ولكن لكلِّ مكانٍ حال ولكلِّ حالٍ مقال ولكلِّ مقالٍ أداءه المختلف.
٨_ ونقلاً عن خبير المقامات الدكتور طه عبد الوهاب والذي كتب يقول: (بدأ بمقام البياتي، وتنقل بين أبعاده قراراً وجواباً، وانتقل إلى مقام الصبا والذي أداه بإحساس أبكى كلَّ الحضور، وبعدها انتقل الى الرست ومن ثمَّ إلى مقام البيات وفاجأ الفرقة بمقام اللامي العراقي وهذا انتقال آخر إلى الشاهيناز من فروع الحجاز ثم هبوط إلى مقام الهُزام من فروع السيكاه وهبوط لمقام الرست وصعوداً إلى جواب الرست وتخللَّ كلَّ هذا عزفا منفرداً من العازفين المتميزين، مرةً من عازف الكمان وبعد ذلك عازف العود ويليه عازف الناي)
هذه الليلة ليلة رمضانية وترية روحانية بامتياز، ثقافية بتفرِّد، جمعت روائع الشعر في المدح والذكر والعشق السرمدي وعلى أثير صوتٍ مُلهم وراقٍ متألق وهو عميد المنشدين الشيخ ياسين التهامي.