أما (الحب العذري) هذا المصطلح أطلقه المستشرقون الفرنسيون والهولنديون الذين حققوا الرسالة لأول مرة فى منتصف القرن التاسع عشر، وهذا المعنى سبب لهم حيرة شديدة إذ كيف يحب الإنسان ويعشق بدون الوصول لهدف اللذة والمتعة الجنسية، وهذا ما بينه ابن حزم في باب ماهية الحب فقال:
(إن الحب من شأن الأرواح أما اللذة والمتعة فهيا للأجساد وحسب وهي منقضية بانقضاء وقتها أما الحب فله شأن آخر ومنه أنه يستمر ولا ينقضي أبدا، ودلل على ذلك).
أما نحن الذين نعيش في هذه الأزمان الحديثة فنحن في وضع صعب جدا وحالة يُرسى لها… فقد اندثرت ودفنت إنسانيتنا وآدميتنا بفعل تلك الحياة الحديثة، فنحن غرقى في دوامة الحياة المادية الحديثة فقد نسينا أننا من بني الإنسان وأننا خلقنا من لحم ودم ولنا مشاعر وأحاسيس ولنا قلب وفؤاد وتاهت منا أرواحنا وقلوبنا.
أصبحنا أشبه بآلات ميكانيكية مبرمجة بشكل أوتوماتيكي لتؤدي وظائفها بشكل يومي معتاد ليس إلا، ويكأننا مُنومين مغناطيسياً.. فلنا الله. فيجب علينا أن نبحث عن إنسانيتنا وآدميتنا وعن معنى وجودنا في تلكم الحياة الدنيا.
المعاصرين لابن حزم واللاحقين لهم فضلا عن السابقين لهم، والذين عاشوا في عصور ازدهار المسلمين وترفهم ورخائهم بشكل عام كانت أرواحهم سامية صافية ونفوسهم سليمة وقلوبهم وعقولهم خالية من مشاغل الحياة التي لا تنفضي ابدا فأصبحوا يحبون لا لشيء إلا لأجل الحب ووصل المحبوب وفقط، فلا يحبون لنيل وطر أو قضاء شهوة أو نزوة عابرة. للمزيد..
ثم ثمة شيء آخر قد تقرر عندي منذ قرائتي الأولى للتاريخ الإسلامي وهو مستوى الرفاهية والرخاء والترف الذي كانت تعيش فيه هذه الأجيال من المسلمين في ظل دولة قوية ممتدة أرجائها في الشمال والجنوب والشرق والغرب.
وقد تأكد عندي ذلك المعنى أثناء قرائتي لهذه الرسالة أن أهل الأندلس قد بلغوا ذروة الرفاهية والترف ورغد العيش مما لم يبلغه غيرهم من الأمم، حتى فى عصرنا هذا لم نبلغ مبلغهم.. وأنت إن كنت تعد ما نحياه اليوم في أزماننا هذه من تقدم رهيب مُخيف في الاتصالات بكافة أشكالها وسرعة وسهولة المواصلات وما نسكن فيه من مكعبات خرسانية مرصوص بعضها فوق بعض إلى غير ذلك من صور الحياة الحديثة المادية ترف ورفاهية… فعليك أن تعيد النظر في مفهوم وتعريف الرفاهية والترف.
هذا وقد بدأت الرفاهية والترف يأخذ بالمسلمين مأخذه ويتمتعون بأشكاله وألوانه من صدر العصر الدولة العباسية وأخذ في التعاظم إلى حد لا تستطيع تخيله حتى دخل التتر بغداد وأسقطوا الخلافة واستباحوا عاصمتها. وقد بلغ الترف ذروته فى الأندلس ثم انتهى بسقوطها، ثم هو آخذ في الإنحسار إلى يومنا هذا. فنحن لم ولن نعش نصف بل ربع ما عاشوه من ترف ورغد.
وأخيرا… لا يمكنني أن أنهي كلامي حتى أعرج على دخول البربر قرطبة سنة ٤٠٣ هـ، وقد تأثر ابن حزم رحمه الله تعالى تأثرا شديدا بدخول البربر قرطبة (مدينته التي وُلد ونشأ فيها)
واستباحوها وهدموا المنازل والحدائق واضطر أن يهاجر ويترك بيته خوفا على حياته وأهله، وترك ذلك جرحا غائرا في نفسه لم يلتئم حتى موته عام ٤٥٩هـ تقريبا، ظهر هذا جليا فى رسالته تلك وفى حديثه عن نفسه بل وفي نَفَسه وهو يكتب.